ولا شك أن اشتغالهم وحرصهم على كتابة وإثبات هذا العلم هو مما فتح الله تعالى به عليهم؛ وذلك لأنهم لما ورثوا العلم اشتغل بعضهم بحفظه في الصدور بحيث لا ينسى منه، ورزق الله كثيراً منهم الحفظ الثاقب، حتى روي عن الشعبي عامر بن شراحيل أنه قال:(ما كتبت سوداء في بيضاء)، يعني أنه كان يقتصر على الحفظ، فكل شيء يعرض له فإنه يحفظه ولا يحتاج إلى تدوينه، وأنت تشاهد ما روي عنه من الآثار وما روي عنه من الأحاديث.
وقسم ثان اشتغلوا بالتفقه فيه والتفهم له واستنباط الأحكام منه.
وقسم ثالث: يسر الله لهم الأمرين فجمعوا بين الحفظ وبين الفهم.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً لحملة هذا العلم بالغيث الذي يقع على الأرض، وأخبر بأن الغيث إذا وقع على الأرض انقسمت الأرض أربعة أقسام: القسم الأول: يحفظ الماء حتى يزرع منه الناس ويسقون دوابهم، هؤلاء بمنزلة الحفظة الذين رزقهم الله حفظاً وإن لم يكن معهم نوع تفقه.
والقسم الثاني: الأرض التي يصيبها الماء أو المطر ولكنها لا تحفظ الماء ولكن تشربه، ثم تنبت النبات فينتفع الناس بذلك النبات ويرعون منه، فهذا القسم بمنزلة الفقهاء الذين رزقهم الله الفهم واستنباط الأحكام، وإن لم يكن معهم مقدرة على الحفظ.
والقسم الثالث: الأرض التي تجمع بين الأمرين: تحفظ الماء لنيل الشرب وللسقي، وتنبت الكلأ والعشب الكثير، فهؤلاء بمنزلة من جمعوا بين الحفظ وبين الفهم والفقه.
وهناك قسم رابع: وهو أرض سبخة لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء، وهم الذين لم يشتغلوا بشيء من العلم، بل هم معرضون عنه.
نقول: إن هذا هو العلم الصحيح الذي هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث:(مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، فسقى الناس منها ورعوا وشربوا، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به من الهدى والعلم، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).