ومع الأسف أن بدعة المعتزلة وبدعة الجهمية وبدعة القدرية انتشرت فيما بعد القرون الثلاثة، وبالأخص بدعة الجهمية التي هي إنكار الصفات، فقد تمكنت في القرن الرابع وما بعده حتى صار مذهب السلف لا يعرف، بل صاروا يتنقصون السلف ويرمونهم بأنهم جهلة، بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، كما أخبر الله بذلك عن أهل الكتاب في قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}[البقرة:٧٨] أي: إلا مجرد تلاوة لا يفقهون من معانيه شيئاً.
فالخلف الذين هم أهل القرون المتأخرة الرابع والخامس والسادس وما بعدها فكانوا يزعمون أن السلف إنما يؤمنون بألفاظ مجردة لا يدرون ما معانيها، بل يؤمنون بها ألفاظاً ويفوضون معانيها ولا يعرفونها، ولا شك أن هذا تنقص لهم، حتى زعموا أن علم السلف هو مجرد التفويض، ويستدلون بقولهم في أحاديث الصفات:(أمروها كما جاءت بلا كيف)، ولا شك أن هذا تنقص لهم وعيب لهم، وذلك لأنه قد نقل عن السلف رحمهم الله أشياء كثيرة تدل على إيمانهم بالله وإيمانهم بصفات الله، وإيمانهم بما جاءهم عن الله عز وحل، وتقبلهم للشريعة، وتطبيقهم النصوص، واعتقادهم بمدلولاتها، ووصفهم الله تعالى بصفات الكمال وإثبات الصفات كما جاءت.
كما أنهم نهوا عن التكلف في السؤال عن الكيفية وما أشبه ذلك، وهذا معنى قولهم في آيات الصفات:(أمروها كما جاءت بلا كيف)، أي: لا تسألوأ عن الكيفية لأنها مجهولة، وكما يقول مالك بن أنس وهو من علماء تابعي التابعين لما سئل عن الاستواء؛ فقال:(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، وروي هذا أيضاً عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو أحد أكابر التابعين من أهل المدينة، فإنه سئل عن الاستواء فقال:(الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم).
فهذه المقالة تدل على أنهم يعرفون معاني الآيات ويعرفون معاني النصوص ويؤمنون بها، إلا أنهم يعرفون أن لها كيفية وتلك الكيفية هي المجهولة، وهي التي لم تصل علوم الخلق إلى معرفتها.