نحن نعلم أولاً أن الله تعالى أنزل هذه الشريعة وهذه الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم، وكلفه بأن يبلغها للناس بقوله:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}[الشورى:٤٨]، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النور:٥٤]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}[المائدة:٦٧]، ونحن بلا شك نعرف ونعتقد ونتحقق أنه بلغ الرسالة، ثم بعد ذلك لم يقتصر على مجرد إلقائها عليهم، بل بينها لهم ووضحها بالعمل وبالقول، فشرح لهم ما خفي منها ووضح لهم ما يحتاجون إلى إيضاحه قولاً وعملاً بأمر الله له، قال الله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:٤٤].
لما أنزل الله عليه هذا الكتاب ليبينه للناس شرع في بيانه؛ فبيانه هو بيانه بالفعل كالصلاة والحج والزكاة وما أشبه ذلك من الأشياء المجملة، وكالحدود والعقوبات والتعزيرات المجملة في القرآن التي أوضحها وبينها.
وبينها أيضاً بالقول وذلك فيما فسره وأوضحه من الآيات التي بين المراد منها كما استشهد بذلك المفسرون.
ولا شك أن الصحابة الذين بينها لهم قد تحملوها، ولما تحملوها لم يسكتوا عندها بل بلغوها وبينوها لتلامذتهم؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام كلفهم بأن يبلغوها، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ليبلغ الشاهد الغائب)، وقال فيما ثبت عنه:(نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
فلما سمعوا ذلك منه عرفوا أنه سوف ينتقل إلى الرفيق الأعلى، وأنهم سيقومون بعده بحمل هذه الشريعة وبحمل نصوصها وحمل معانيها وحمل كيفياتها، فما سكتوا، بل بلغوا ذلك وأخبروا من بعدهم بما علموه وبما حفظوه، فالنصوص التي حفظوها حدثوا بها وما تركوا شيئاً، والنصوص التي حفظوا معناها ذكروا معانيها فمثلوا لهم الأمثلة، وفعلوا الأفعال أمامهم ليبينوا لهم أن هذا هو ما حفظوه وتلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا ظهرت أعمالهم طبقاً لذلك العلم، وذلك أن العلم إذا كان سليماً وكان علماً صحيحاً فإنه يتبعه العمل لأنه ثمرته.