ثم حدث في أواخر عهد الصحابة بدعة أخرى هي بدعة إنكار القدر السابق، كما قال يحيى بن يعمر:(كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء، فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد خرج قبلنا أناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، وإنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برءاء مني، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره).
هذه الطائفة أنكروا العلم السابق وقالوا: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، وأنكروا أن يكون الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وأنكروا أن يكون الله قدر على العباد ما هم فاعلون، وعلم ما عمل الشقي والسعيد وما أشبه ذلك، وقد أنكروا النصوص الصريحة في ذلك، ولكن رد عليهم السلف وبينوا خطأهم، وبينوا أن هذا قول باطل، وأن هذا تنقص لعلم الله تعالى، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله:(ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا)، أي: سلوهم: هل تقرون أن الله بكل شيء عليم؟ وبأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ فإن اعترفوا بأن الله بكل شيء عليم انقطعت حجتهم ولم يبق لهم ما يتعلقون به، وإذا أنكروه وقالوا: لا نقر بأن الله بكل شيء عليم كفروا، وذلك لأنهم تنقصوا الله تعالى ووصفوه بالجهل، فإنّ من نفى العلم عن الله يلزمه أن يثبت له الجهل.
فهذه بدعة خرجت ولكن كان هناك من يقاومها ويردها، فلم تكن متمكنة في ذلك العهد، وذلك لقوة أهل الحق وكثرتهم ولقوة الأدلة التي جادلوا بها، فانقطعت الشبه:{وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:٤٨].