وهكذا أيضاً في باب إزالة النجاسات، فترى أحدهم إذا وقعت عليه نجاسة لا يكتفي بغسلها مرتين أو ثلاثاً مع زوالها، بل ربما غسلها عشر مرات أو أكثر، وهكذا في باب الاستنجاء الذي هو غسل أثر البول والغائط، أكثر ما قيل: إنه يغسل سبع مرات.
ولكن تجد بعضهم يغسله عشرات المرات، ويصب على بوله عدداً من المرات، وكل ذلك من الغلو ومن الزيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا شك أن هذا من وسوسة الشيطان ليمل العبد من العبادة، وذلك لأنه متى دام على هذا التطهر سنة أو سنتين مل وضجر، واستثقل العبادة، وربما ترك الصلاة لاستثقال الطهارة، وقد حدثني من وقع له هذا الأمر وأنه لا يكاد أن يتوضأ إلا لساعتين، فقال: كيف أصلي هذه الصلوات؟! فصار يجمع الصلوات الخمس في وضوء واحد: يتوضأ بعد العشاء ويصلي الصلوات الخمس، فيكون قد أفرط حيث ترك الصلاة في مواقيتها، بعد أن ثقل عليه الشيطان أمر الطهارة التي لا تستغرق إلا خمس دقائق ونحوها، ثقلها عليه حتى يغير العبادة عن وقتها.
وكذلك في باب إزالة النجاسة فقد يوسوس له الشيطان أنه انتقض وضوءه وهو في الصلاة حتى يقطع صلاته، أو أن في ثوبه أدنى نجاسة ولو كانت قليلة، حتى ينوي أن صلاته بطلت؛ ليستثقل الصلاة فيمل منها بعد ذلك، وكثير منهم تركوا الصلاة لأجل هذه الوسوسة، فلما ثقل الشيطان عليهم الطهارة أصبحت الصلاة ثقيلة عليهم وشاقة أيما مشقة، فعند ذلك رأوا أن يتركوا الصلاة لأجل هذه المشقة، ولو رجعوا إلى تعاليم الإسلام وإلى ما شرعه لعرفوا أن هذا ليس من الدين في شيء، وأن الإسلام جاء بالسهولة وباليسر وبالسماحة وبالبعد عن كل المشقات وكل الصعوبات.
فهؤلاء غلوا في باب الطهارة وقابلهم طرف آخر فرطوا في ذلك وتهاونوا.
وأما الذين فرطوا فإنهم كثير، وسبب تفريطهم وسوسة الشيطان؛ ليبطل بذلك عملهم، فترى أحدهم إذا غسل وجهه لا يبالغ ولا يسبغه، فيبقى في وجهه بعض الأجزاء التي لم يأت عليها الماء، وإذا غسل يديه أو رجليه غسلهما بسرعة ومسحهما مسحاً ولا يبالي، فتبقى في عقبيه بقع لم يصلها الماء، وهؤلاء من الذين فرطوا وجفوا وقصروا في باب الطهارة، وكثيراً ما ننصح هؤلاء أن يسبغوا الوضوء وأن يتعاهدوا، حيث إن الشرع قد ورد بالأمر بالإسباغ في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما عدد الخصال التي ترفع بها الدرجات، ويمحو الله بها الخطايا قال:(إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط).
وهكذا أيضاً حثنا على أن نتعاهد ما قد ينبو عنه الماء من الجسد ومن القدمين خاصة في قوله صلى الله عليه وسلم:(ويل للأعقاب من النار)، وفي رواية:(ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار)، فالذين يغسلون غسلاً خفيفاً، ولا يتعاهدون أقدامهم، كثيراً ما ترى في مؤخرة أقدامهم بقعة لم يمسها الماء، فتبطل بذلك الطهارة، فهؤلاء مفرطون، حيث إنهم نقصوا في الطهارة، فأولئك زادوا وغلوا وتجاوزوا، وهؤلاء قصروا ونقصوا.
ودين الإسلام جاء بالوسط، وهو أن الإنسان يتوضأ وضوءاً مسبغاً، فيكتفي بغسلة واحدة مسبغة كافية للعضو، وإذا زاد غسلة ثانية فهي أفضل، وإذا زاد غسلة ثالثة فهي أفضل من الثنتين، ولا تجوز الزيادة على ثلاث، والزيادة على الثلاث تعتبر إسرافاً وإفساداً وغلواً، فكيف بالذين يغسلون العشرات؟! هذا هو التوسط في هذا الباب.