كذلك مما يبحث فيه مسألة الإيمان (السلف بين العلم والإيمان) فنقول: ما المراد بالإيمان؟ لاشك أن الإيمان في الأصل هو العقيدة الراسخة في القلب، وأن تلك العقيدة لا بد أن يكون لها مستند، فإن الشيء الذي له مستند يعتمده يكون راسخاً راسياً لا يخاف عليه أن يتزعزع ولا أن يسقط، فإن حيطان المسجد أو غيره من البنايات أو الأعمدة تعتمد عليها السقوف، إذا قامت على أساس قوي عميق، فإن البناء يثبت وينتفع به، وأما إذا لم يكن لها أساس بل كانت على وجه الأرض ولم تكن على أصل تعتمد عليه، فإنه لا تلبث أن تسقط أو تتصدع الحيطان أو ما أشبه ذلك.
فكذلك علم السلف الذي ذكرنا لا شك أنه أثر في قلوبهم، فصار من آثار ذلك العلم الإيمان الذي هو عقيدة راسخة، وسبب رسوخها هو قوة الدليل الذي اعتمدوه، وهو تلك النصوص الواضحة التي لا غموض فيها ولا التباس، وذلك لأنهم بنوا عقائدهم على أصول عقلية تؤيدها أدلة وأصول نقلية سمعية، فالأدلة النقلية هي ما ورثوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم من الآيات ومن الأحاديث، والأدلة العقلية هي ما شهدت به الفطر السليمة المستقيمة التي لم تتغير بالبدع ولا بالخرافات ولا بغيرها، بل صانها ربها عن أن تركن إلى تلك الشبهات وتلك الخرافات، فكان ذلك سبباً من أسباب بقائها على هذه العقيدة ورسوخها وعدم تزعزعها، ولهذا لم تؤثر فيهم تلك الشبهات، التي أدلى بها المبتدعة، فعند الخوارج شبهات يستدلون بها، وعند المعتزلة شبهات يعتمدونها، ولكنها شبهات لا يلتفت إليها وليست راسخة، بل بعض الشبهات التي يتشبثون بها يحطم بعضاً، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في بيت مشهور في آخر العقيدة الحموية فقال: حجج تهافت كالزجاج كأنها حق وكل كاسر مكسور أي: حججهم أو شبهاتهم في منزلة ما إذا كان معك زجاجتان إحداهما في يدك اليمنى والأخرى في اليسرى، ثم ضربت إحداهما بالأخرى فتنكسران معاً، فكذلك حجج المبتدعة: فحجج المعتزلة عقلية تنقضها حجج الجهمية، ومثلهم بعض العلماء كـ ابن القيم في الصواعق بمثال نظمه أيضاً في أبيات بقوله: واضرب لهم مثلاً بعميان خلوا في ظلمة لا يهتدون سبيلا فتصادموا بأكفهم وعصيهم ضرباً يدير رحا القتال طويلا حتى إذا ملوا القتال رأيتهم مشجوجاً ومفجوجاً او مقتولا وتسامع العميان حتى أقبلوا للصلح فازداد الصياح عويلا فهذا أيضاً مثل لحججهم وأنهم مثل العميان إذا اصطدم بعضهم ببعض، وذلك أنهم لا يهتدون ولا يدري أحدهم بالآخر، فإذا تصادموا وظن أحدهم أن الآخر تعمده، فإنه سيضربه بكفه وبعصاه، ثم كل منهم يضرب الآخر، فهكذا شبهات هؤلاء لما كان الحق واضحاً لم تؤثر فيه تلك الشبهات ولما كانت تلك الشبهات مبنية على تخرصات وظنون لم تقبل، بل أبطل بعضها بعضاً.
ولهذا كثيراً ما يذكرون أن بعضهم يرد حجته بنفسه، فبعض أولئك المبتدعة يبتدع حجة ويتخذها دليلاً، ثم يأتي إلى نقضها بنفسه أو ينقضها شيخه أو تلميذه، وهذا دليل على أن تلك الشبهات ليست على علم راسخ، وأما حجج الصحابة والتابعين ومن بعدهم فإنها عن دليل راسخ، فلهذا لم تؤثر فيها تلك الشبهات، لأنهم لما اعتقدوا هذه العقيدة وآمنوا هذا الإيمان ورسخ في قلوبهم، لم تزعزعه تلك الشبهات.