لا شك أن ربنا سبحانه فطر الإنسان على محبةِ ذريته محبةً طبيعية، وإن علم أنهم لا ينفعونه في حياته، فقد يكون عمره في الثمانين أو في التسعين، ويولد له أولادٌ صغار، ويعرف أنه سيموت قبل أن ينفعوه، ولكن مع ذلك يحبهم ويشفق عليهم، ويعطيهم ويبذل لهم، وينشئهم على ما يعرف أن فيه خيراً، فهذا دليل على أن الله تعالى جعل هذه الرحمةَ في قلوب الآباء للأولاد وقت حاجتهم؛ لأنهم في حالة الصغر بحاجة إلى عناية، فلو أن الطفل إذا ولد قذف به، ولم يعتنِ به أبواه، فهل يستقيم ويصلح؟ لابد أنه يحتاج إلى من يربيه، وإلى من يحضنه ويطعمه ويسقيه ويرضعه، وكذلك بحاجة إلى من يعلمه ويلقنه ما تستقيم به حالته، فإذا كان هؤلاء الآباء منشغلين، ويقولون: إنما تربيتنا للأجسام دون أن نعتني بالقلوب ولا بالفطر، فإنهم -بلا شك- ملومون على ذلك، محاسبون عليه حساباً شديداً، ولا شك أنه إذا أهمله وقت الصغر يقسو قلبه بعد ذلك، وإذا قسا قلبه بعدما يبلغ أشده يحاول أبوه بعد ذلك أن يرده فيصعب رده؛ وذلك لأنه قسا عوده، ولو اعتنى به في صغره لوجده ليناً: إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشبِ فإذا كان غصناً ندياً رطباً صغيراً فإنه يلتوي ويلين مع من يلينه، فأما إذا صلب ويبس فإنه لا يلين حتى يكسر، فعلى الوالدين أن يعرفوا أن إهمالهم لأولادهم في الصغر وإعراضهم عنهم وانشغالهم بالوظائف أو التجارات أو الأعمال وتركهم تربية الأولاد، وإسناد تربيتهم إلى من قد يفسدهم من معلمين أو نحوهم، فإن ذلك مما يحزنهم إذا فات الأوان، وقست قلوبهم، وصعب تقويمهم، فأسفوا وقالوا: هذا هو سببُ تفريطنا، ونشاهد أن كثيراً من الآباءِ يشتكون أن أولادهم قسوا عليهم، وخرجوا عن طواعيتهم، وعقوهم، وقطعوهم، وخرجوا عن الاستقامة والطاعةِ لآبائهم، فنسألهم: ما السببُ في ذلك؟ فيقولون: إنا كنا قد انشغلنا عنهم، ولم نعتنِ بهم، ووكلنا تربيتهم إلى معلمين، والمعلم عادةً إنما يعلمه ما قرر عليه من المناهج الدراسية، ولكن التعليم بالفعل قليل، ثم المعلمون يعلمونهم خمس ساعاتٍ أو ستِ ساعاتٍ كل يوم، فإذا خرجوا فهناك من يتلقاهم؛ فيحرفهم، ويصرفهم، ويفسدهم، فيكون الأبُ هو السبب، لماذا فسد أولادك؟ لأني لم أنتبه لهم، فبعدما انحرفوا عرفت أني فرطت، وقلت: يا حسرتا على ما فرطتُ في جنب الله! يا حسرتا على هذه الإضاعة! وعلى هذا الإهمال! وعلى هذا الانشغال! فالآن استقبل وقتاً جديداً، وقل: أولادي الصغار سأحتضنهم، وأعتني بهم اعتناءً كاملاً، وأربيهم على الصلاح والطهارة والصلاة والصيام، وعلى العبادات والقرآن، وعلى الذكر والدعاء، وعلى فعل الخير، وحضور حلقات العلم، ومحبةِ العلماء، وعلى كل ما يؤثر في استقامتهم وفطرهم، حتى لا يعصوني كما عصاني من قبلهم، فهذا قسمٌ وقع فيه كثيرٌ من الناس.