فوادح، ويذكر حنينه الذي شغله عن ذاته، وأذهله حتى عن تمني اللقاء ولذاته، ونغص صفو عيشه بالبعد، وهذه أحسن حالاته. وينهي ورود المثال العالي فتلقى منه أكرم وارد، وحوى من ألفاظه الغر مصائد الشوارد، وشافهه منها ألسن عتب لها في القلب وقع السيوف، وإن كانت فصاحتها مثل المبارد، وأضرمت في الحشا نيراناً لها الزفرات دخان، والضلوع المحنية مواقد، فقابلها بأعذاره الملفقة، فقالت حرارة تلك السطور: دعنا من عذرك البارد، ونظر من تلك الحروف المنظمة إلى نونات كأنها براثن الأسود، وإلى ميمات كأنها عيون الأساود:
وكأن ذاك الطرس أصبح سلّة ال ... حاوي وهاتيك السطور أفاعيا
ثم إن المملوك كابر نفسه، وقال: ربما تصحف عليه ما تصفح، وترجى أن يكون هذا القدر هو الذي ترجح، وجانس بين آساته وعطفه، فذاك ترنم، وهذا ترنح:
ويدلّ هجركم على ... أنّي خطرت ببالكم
وعلل نفسه بقول الآخر:
................................. ويبقى الودّ ما بقي العتاب
وقال: هذا هو العتب المحمود العواقب، وهذا التأديب الذي يعقب الرضى ولا يعاقب. وقد عاد المملوك إلى صوب الصواب، وتضرع من تلك السطور على عتبات العتاب، وظن أنما فتن، فاستغفر ربه، وخر راكعاً وأناب:
وهذا الذنب أوّل كلّ ذنب ... وآخره إلى يوم الحساب
فليغفر مولانا هذه الهفوه، وليقله عثرة هذه الخطوه، التي لم يلق فيها حظوه،