كتب الإنشاء أولاً بصفد، وفاز من الدهر بالحظ والصفد، ثم نقل إلى طرابلس، فنال فيها الحظ والوجاهة والسيادة، وباهى فيها الكواكب بمعاليه وباده.
وكن من رجال الزمان إقداماً، وممن يتعب أعاديه إرغاماً، لا يهاب الأسود إذا فغرت فاها، ولا الأيام إذا أدبرت وأولته جفاها، خبيراً بمداخلة النواب، ومشاكلة الأنواع والأضراب، ما كتب قدام نائب إلا وخلبه، ونهب عقله وسلبه، وأصبح طوع مرامه، وقوساً في يده يرمي بها إلى غرضه بسهامه، ولا يرجع في المملكة لغيره في كلمة، ولا لصاحب وظيفة حركة في النفاد مصطلحة، ولا تجد في بلده أحداً يذكره إلا وهو يقول.
أطاعته المقادير وساعدته، وتأخرت عنه الخطوب وباعدته، ولو أخره الأجل تقدم، ولم يغادر للرؤساء غيره من متردم، فإن القاضي علاء الدين بن الأثير كان يطوي حشاه على محبته، ويرى أنه يستحق التقدم لرتبته، ولكن تقدم بين يديه فرطاً، وسطع له بارق السعد ثم سطا.
وكان فيه خدمة للناس في قضاء أشغالهم، ومبادرة إلى تلقي حوائجهم، وتمشية أحوالهم، لا يتوقف في أمر يقصد فيه، ولا يبالي إن كان تلافه فيه أم تلافيه. وكان يدعي معرفة علوم شتى، وربما تجاوز في بعض الأوقات وأفتى. وينظم وينثر، ويجري في حلبة الشعراء، وما يرى أنه يعثر، ولكنه كان بالنجامة مغرى، ويرى أنه هو بمفرده منها أكبر من أبي معشر قدراً، وهي أجود ما يعرفه، وخيار دينار يخرجه