ولما مات رحمه الله تعالى كنت بالديار المصرية فقلتُ أرثيه، ولم أكتب بها الى أحد:
ما حُزن قلبي في البلوى بمحدودِ ... ولا فؤادي في السّلوى بمعدودِ
فلا تذمَّ امرأ يبكي الدماء على ... أبي الثناء شهاب الدين محمود
يا ساري الليل يبغي الفضلَ مجتهداً ... ارجع وحُطَّ عن المهريّة القُود
مات الإمام الذي كنا نؤمّ له ... فيما نؤمّله من غير تفنيد
وأقفرت ساحةُ الآداب واندرستْ ... معالم العلم منه بعد تشييد
أما ترى كيف كتّاب الأنام غدت ... أوراقُهم وهي فيه ذات تسويد
هو الإمام الذي لما سما كرماً ... ألقت إليه المعاني بالأقاليد
طوفان علم جرَت فيه السّفينة من ... آدابه واستوت منه على الجودي
فليس باغي معاليه بذي ظَفَرٍ ... وليس راجي أياديه بمردود
كأن أقلامه في الكفّ بانُ نَقىً ... حمائم السّجع منها ذات تغريد
فيرجع الطّرس من نقش عليه بدا ... كأنّه نقش كفّ الكاعب الرود
كم قلّد الدهر عقداً من قصائده ... بدُرّ لفظٍ بديع الرّصفِ منضود
وكم حبا الملكَ تيجان البلاغة من ... تلك التواقيع أو تلك التقاليد
وكم أفاد المعاني من بلاغته ... ما زانها باختراعاتٍ وتوليد
فصال إذ صان سرّ الملك منفرداً ... على الأعادي بكيدٍ غير مكدود
فلا قوامُ القَنا يهتزّ من مرح ... ولا خُدود المواضي ذات توريد
وليس يُسمَع للأبطال همهمةٌ ... رعودها خار منها كل رِعديد
تدبير مَن حلبَ الأيام أشطرها ... مهذّب الرأي في عزم وتسديد