وقد استعمل الحريري رحمه الله هذا في مقاماته، فهو في كل مرة يجتمع فيها الحارث بن همام بأبي زيد ويحتاج إلى أن يقول: فلما أصبح الصبح، تراه يعبر بعبارة عن هذا المعنى بغير عبارته الأولى، فتارة قال: فلما لاح ابن ذكاء، وألحف الجو الضياء، وتارة قال: إلى أن أطل التنوير، وحسر الصبح المنير، وتارة قال: حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان، وتارة قال: إلى أن عطس أنف الصباح، ولاح داعي الفلاح، وتارة قال: فلما بلغ الليل غايته، ورفع الصبح رايته، وهذا كثير في مقاماته، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة رحمه الله تعالى ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملى مجلدةً معناها من أولها إلى آخرها: يا أيها الناس اتقوا الله واحذروه، فإنكم إليه راجعون، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عنه هذه النكتة فيه، وقد خطر لي أنا مثل ذلك عند ذكر وفاة كل من الأعيان الذين أذكرهم في هذا التأريخ، فإن اتفق لي مثل هذا فهو بحول الله وقوته، وإنقاذ الجبان من دحض هوته، وإلا فعذر المزلة في هذا المقام واضح، والإقالة من عثرته أمر راجح، وأعوذ بالله من إعجاب المرء بنفسه، وجره رداء الخيلاء وهو حقير في نوعه وجنسه.
وقد سميت الكتاب عندما أردت وضعه، وقصدت تأليفه وجمعه أعيان العصر وأعوان النصر، وبالله الاستغاثة والاستعانة، وطلب الإنابة إليه في الإعانة على الإبانة والعياذة مما نحن به في هذا الزمان من الزمانة، إنه ولي الخيرات في الدنيا والآخرة سبحانه، عليه توكلت وإليه أنيب.