لَهُ)) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ قَولِ أَهْلِ الجَبْرِ، لِأَنَّ التَّيسِيرَ غَيرُ الجَبْرِ! وَاليُسْرَى: العَمَلُ بِالطَّاعَةِ، وَالعُسْرَى: العَمَلُ بِالمَعْصِيَةِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ -فِي حَدِيثِ عَليٍّ-: إِنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِمَنْ يُطِيعُهُ فَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، وَبِمَنْ يَعْصِيهِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْقَاقُ مِنْ يَسْتَحِقُّ الجَنَّةَ مِنْهُم بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيهِم؛ وَلَا اسْتِحْقَاقِهِ النَّارَ لِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيهِم! وَلَا اضْطَرَّ أَحَدًا مِنْهُم عِلْمُهُ السَّابِقُ إِلَى طَاعَةٍ أَو مَعْصِيَةٍ! وَلَكِنَّهُ تَعَالَى نَفَذَ عِلْمُهُ فِيهِم قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم وَمَا هُمْ عَامِلُونَ وَإِلى مَا هُمْ صَائِرُونَ، إِذْ كَانَ لَا تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم وَلَا بَعْدَ مَا خَلَقَهُم، وَلِذَلِكَ وَصَفَ أَهْلَ الجَنَّةِ فَقَالَ: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ [الوَاقِعَة: ١٣ - ١٤]، إِلَى قَولِهِ: ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الوَاقِعَة: ٢٢ - ٢٤]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السَّجْدَة: ١٧].
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَهْلِ النَّارِ: ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فُصِّلت: ٢٨]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَثَابَ أَهْلَ طَاعَتِهِ جَنَّتَهُ بِطَاعَتِهِ، وَجَازَى أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ النَّارَ بِمَعْصِيَتِهِم إِيَّاهُ، وَلَم يُخْبِرْنَا أنَّهُ أَدْخَلَ مَنْ أَدْخَلَ مِنْهُم النَّارَ وَالجَنَّةَ لِسَابِقِ عِلْمِهِ فِيهِم! وَلَكِنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالجَنَّةِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ؛ وَفِي هَذَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا بِمَعْصِيَتِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى وَنَهَى، لِيُطِيعَهُ المُطِيعُ مِنْهُم فَيَسْتَوجِبَ بِطَاعَتِهِ الجَنَّةَ، وَيَسْتَحِقَّ العِقَابَ مِنْهُم بِمَعْصِيَتِهِ العَاصِي فَيَدْخُلَ بِهَا النَّارَ، وَلِتَتِمَّ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى قَولِهِ ﷺ: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) إِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا وُصِفَ مِنْ أَنَّ الَّذِي سَبَقَ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ لَمْ يَضْطَرَّ وَاحِدًا مِنَ الفَرِيقَينِ إِلَى الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ وَيُمَهِّدُ لِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى ذَلِكَ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute