للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِذًا: هَؤُلَاءِ مَاتُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُعَذَّبونَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَسَّرَ هَذِهِ الأَحَادِيثُ -وَهِيَ كَمَا قُلْتُ آنِفًا: تُعْطِينَا مَعْنًى مُتَوَاتِرًا- وَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُم يُعَذَّبُونَ، وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُم مَا جَاءَهُم مِن نَذِيرٍ بِالمَعْنَى الضَّيِّقِ الأَوَّلِ، لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُم جَاءَهُم النَّذِيرُ بِالمَعْنَى الوَاسِعِ، أَي: جَاءَتْهمُ الدَّعْوَةُ -دَعْوَةُ التَّوحِيدِ؛ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ- فَأُقِيمَتِ الحُجَّةُ عَلَيهِم، وَلِذَلِكَ فَهُم يُعَذَّبُونَ.

إِذًا: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] هِيَ عَلَى عُمُومِهَا، وَمُؤَيَّدَةٌ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ: ((مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ مِن يَهُودِيٍّ أَو نَصْرَانِيٍّ يَسْمَعُ بِي ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ)) (١)، وَالأَحَادِيثُ الأُخْرَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كُلُّهَا تَلْتَئِمُ وَتَضْطَرُّنَا اضْطِرَارًا عِلْمِيًّا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ الآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا؛ وَأَنَّهُ لَيسَ المَقْصُودُ -كَمَا هُوَ المُتَبَادِرُ مِن لَفْظِ الآيَةِ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ - دُونَ التَّوحِيدِ!! هَذَا لَا يَتَبَادَرُ، مَع ذَلِكَ؛ الحَدِيثُ يُؤَيِّدُ عُمُومَ وَشُمُولَ الآيَةِ وَالأَحَادِيثَ الأُخْرَى، وَلِذَلِكَ فَهُنَا -مِمَّا أَعْتَقِدُ مِن كُتُبِ التَّوحِيدِ- لَا أَحَدَ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الآيَةِ فِيمَا أَعْلَمُ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالأَحْكَامِ دُونَ التَّوحِيدِ! " (٢) (٣).

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين : "لَا شَكَّ أَنَّ العُذْرَ بِالجَهْلِ ثَابِتٌ، وَمَا عِنْدَنَا فِي هَذَا إِشْكَالٌ -لَا فِي مَسْأَلَةِ الكُفْرِ؛ وَلَا فِيمَا دُونَها- مَتَى كَانَ الإِنْسَانُ يَقُولُ: إِنَّه مُسْلِمٌ،


(١) صَحِيحُ مُسْلِمٍ (١٤٩) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(٢) مَوسُوعَةُ الأَلْبَانِيِّ فِي العَقِيدَةِ (٥/ ٩٣١).
(٣) وَيُنْظَرُ: تَفْسِيرُ الرَّازِي (٢٦/ ٢٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>