للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَكَونُهَا خَبَرًا عَنْهُم أَولَى.

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَد عَمَّ بِالخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ جَميعِ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ! فَكَيفَ جَعَلْتَهُ خَاصًّا؟ قِيلَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى عَمَّ بِالخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ قَومٍ كَانُوا بِحُكْمِ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ جَاحِدِينَ، فَأَخْبَرَ عَنْهُم أَنَّهُم بِتَرْكِهِم الحُكْمَ -عَلَى سَبِيلِ مَا تَرَكُوهُ- كَافِرُونَ. وَكَذَلِكَ القَولُ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ جَاحِدًا بِهِ؛ هُوَ بِاللهِ كَافِرٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (١)، لِأَنَّه بِجُحُودِهِ حُكْمَ اللهِ -بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَنْزَلُه فِي كِتَابِهِ- نَظِيرُ جُحُودِهِ نُبُوَّةَ نَبيِّهِ -بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ نَبيٌّ-" (٢).

- قَالَ الإمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ المَشْهُورَةِ: "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَم يَسْتَحِلَّهُ" (٣).


(١) قَولُ ابْنِ عبَّاسٍ المَذْكُورُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ (١٠/ ٣٥٧)، وَلَفْظُهُ: (مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ). وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ فِي الصَّحِيحَةِ (٢٥٥٢): "جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ".
(٢) تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (١٠/ ٣٥٨).
(٣) قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ فِي تَخْرِيجِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص ٥٧): "يَعْنِي اسْتِحْلَالًا قَلْبيًّا اعْتِقَادِيًّا؛ وَإلَّا فَكُلُّ مُذْنِبٍ مُسْتَحِلٌّ لِذَنْبِهِ عَمَلِيًّا -أَي: مُرْتَكِبٌ لَهُ-، وَلِذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْرِيقِ بَينَ المُسْتَحِلِّ اعْتِقَادًا؛ فَهُوَ كَافِرٌ إِجْمَاعًا، وَبَينَ المُسْتَحِلِّ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا؛ فَهُوَ مُذْنِبٌ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ اللَّائِقَ بِهِ -إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ- ثُمَّ يُنْجِيهِ إِيمَانُهُ، خِلَافًا لِلخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَيهِ بِالخُلُودِ فِي النَّارِ وَإِنٍ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ كَافِرًا أَو مُنَافِقًا".
وَقَالَ أَيضًا فِي رِسَالَتِهِ النَّفِيسَةِ الوَجِيزَةِ (فِتْنَةُ التَّكْفِيرِ) (ص ٣٢): "وَفِي قِصَّةِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي قَاتَلَ أَحَدَ المُشْرِكِينَ؛ فَلَمَّا رَأَى هَذَا المُشْرِكُ أَنَّهُ صَارَ تَحْتَ ضَرْبَةِ سَيفِ المُسْلِمِ الصَّحَابِيِّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَا بَالَاهَا الصَّحَابِيُّ؛ فَقَتَلَهُ! فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ النَّبِيَّ أَنْكَرَ عَلَيهِ ذَلِكَ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، فَاعْتَذَرَ الصَّحَابِيُّ بِأَنَّ المُشْرِكَ مَا قَالَهَا إِلَّا خَوفًا مِنَ القَتْلِ، وَكَانَ جَوَابُهُ : ((هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ))؟! أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ .
إِذًا الكُفْرُ الاعْتِقَادِيُّ لَيسَ لَهُ عَلَاقَةٌ أَسَاسِيَّةٌ بِمُجَرَّدِ العَمَلِ؛ إِنَّمَا عَلَاقَتُهُ الكُبْرَى بِالقَلْبِ".

<<  <  ج: ص:  >  >>