للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الحِكْمَةِ فِي الدَّعْوَةِ أَلَّا تُبَاغِتَ النَّاسَ بِمَا لَا يُمْكِنُهم إِدْرَاكُهُ! بل تَدْعُوهُم رُوَيدًا رُوَيدًا حَتَّى تَسْتَقِرَ عُقُولُهُم (١).

وَفِي الأَثَرِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ تَحَدِيثِ النَّاسِ بَمَا لَا تُدْرِكُهُ عُقُولُهُم، وَمِنْ ذَلِكَ التَّفَاصِيلُ وَالتَّوَسُّعُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِنْكَارِهَا -وَهُوَ كُفْرٌ بِهَا- وَذَلِكَ يُنَافِي تَوحِيدَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

وَدَلَّ الأَثَرُ أَيضًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ العِلْمِ لَا يَصْلُحُ لِكُلِّ أَحَدٍ.

- قَولُهُ: (بِمَا يَعْرِفُونَ): لَيسَ مَعْنَاهُ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ! لِأَنَّ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ يَكُونُ التَّحَدِيثُ بِهِ مِنْ تَحْصِيلِ الحَاصِلِ، وَإِنَّمَا المَقْصُودُ بِمَا يُدْرِكُونَ بِعُقُولِهِم، لِأَنَّ السَّامِعَ لِمَا لَمْ يَفْهَمْهُ يَعْتَقدُ اسْتِحَالَتَه -جَهْلًا- فَلَا يَعْرِفُ وُجُودَهُ؛ فَيَلْزَمُ التَّكْذِيبَ.


(١) قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (٢/ ١٩٣): "وَمِثْلُ ذَلِكَ: العَمَلُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا يَعْتَادُهَا النَّاسُ وَيَسْتَنْكِرُونَهَا، فَإِنَّنَا نَعْمَلُ بِهَا لَكِنْ بَعْدَ أَنْ نُخْبِرَهُم بِهَا، حَتَّى تَقْبَلَهَا نُفُوسُهُم وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيهَا.
وُيسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الأَثَرِ أَهَمِّيَّةُ الحِكْمَةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ ﷿؛ وَأَنَّهُ يَجْبُ عَلَى الدَّاعِيَةِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُقُولِ المَدْعُوِّينَ وَيُنْزِلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَتَهُ".
قُلْتُ: وَمِنْ نَفْسِ البَابِ أَورَدَ النَّوَوِيُّ حَدِيثَ البُخَارِيِّ (٦٥٠٢) فِي أَرْبَعِينِيَّتِهِ وَهُوَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبْ، وَمَا تقرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَإِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) وَلَكِنَّهُ لَيسَ بِتَمَامِهِ! وَتَمَامُهُ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوتَ وَأَنَا أَكْرْهُ مَسَاءَتَهُ))، فَلَعَلَّ اخْتِصَارَهُ لَهُ هُوَ مِنْ هَذَا البَابِ -أَي مُرَاعَاةً لِحَالِ السَّامِعِينَ- وَذَلِكَ لِكَونِ هَذِهِ الأَرْبَعِينَ هِيَ مِنَ المُتُونِ المُعَدَّةِ لِلمُبْتَدِئِينَ فِي طَلَبِ العِلْمِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>