فَابْتِغَاءُ الفِتْنَةِ هُوَ: لِيَفْتِنُوا النَّاسَ بِهِ؛ إِذْ وَضَعُوهُ عَلَى غَيرِ مَوَاضِعِهِ، ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أَي: تَحْرِيفَهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَ (١).
- القُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِاعْتِبَارٍ، وَكُلُّهُ مُتَشَابِهٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَمِنْهُ المُحْكَمُ وَمِنْهُ المُتَشَابِهُ بِاعْتِبَارٍ ثَالِثٍ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الأَوَّلُ: كُلُّهُ مُحْكَمٌ: كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ [هُود: ١ - ٢]، فَالقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ؛ بِمَعْنَى أنًّ مَعْنَاهُ وَاضِحٌ مُتَعَاضِدٌ؛ وَأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَحْكَمَهُ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَبَايُنَ، وَإِنَّمَا بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النِّسَاء: ٨٢].
الثَّانِي: كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ: بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، فَهَذَا الحُكْمُ وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ تُشْبِهُ تِلْكَ لِأَنَّهَا تَسِيرُ مَعَهَا فِي قَاعِدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَنُصُوصُ الشَّرِيعَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا
(١) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ ﵀ فِي التَّفْسِيرِ (٢/ ٨): " ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ أَي: إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ بِالمُتَشَابِهِ الَّذِي يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الفَاسِدَةِ، وَيُنْزِلُوهُ عَلَيهَا لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُونَهُ، فَأَمَّا المُحْكَمُ فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَامِغٌ لَهُمْ وَحُجَّةٌ عَلَيهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ أَيِ: الإِضْلَالَ لِأَتْبَاعِهِمْ إِيهَامًا لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِالقُرْآنِ! وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيهِمْ لَا لَهُمْ، كَمَا لَوِ احْتَجَّ النَّصَارَى بِأَنَّ القُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ عِيسَى هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَتَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِقَولِهِ تَعَالَى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيهِ﴾ [الزُّخْرُف: ٥٩]، وَبِقَولِهِ: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ المُحْكَمَةِ المُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَعَبْدٌ وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. وَقَولُهُ: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أَي: تَحْرِيفَهُ عَلَى مَا يُرِيدُون، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: يَبْتَغُونَ أَنْ يَعْلَمُوا مَا يَكُونُ، وَمَا عَوَاقِبُ الأَشْيَاءِ مِنَ القُرْآنِ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute