للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ مِثْلُ كَيفِيَّةِ وَحَقَائِقِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَحَقَائِقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الجَنَّةِ وَعَذَابِ النَّارِ (١)، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي نَعِيمِ الجَنَّةِ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السَّجْدَة: ١٧]، أَي: لَا تَعْلَمُ حَقَائِقَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ صِفَاتِهَا عُمُومًا كَأَنْهَارِهَا وَأَشْجَارِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَنِسَائِهَا، وكَمَا فِي الأَثَرِ: (لَيسَ فِي الجَنَّةِ شَيءٌ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الأَسْمَاءَ) (٢).

وَهَذِهِ الحَقَائِقُ هِيَ مِمَّا لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ضَرُورَةٌ وَلَا حَاجَةٌ لِلنَّاسِ فِي تَدَيُّنِهِم وَسُلُوكِهِم وَعَقِيدَتِهِم؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ شَرْعِيٌّ، فَلَو كَانَ لِلنَّاسِ فِيهَا حَاجَةٌ لَبَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى وَلَمْ يَسْكُتْ عَنْهَا (٣).


(١) وَمِثْلُ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأَعْرَاف: ٥٣] أَي: حَقِيقَةَ مَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ المَعَادِ. قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ (٢/ ١١).
(٢) رَوَاهُ أَبُو نُعَيمٍ فِي صِفَة الجَنَّةِ (ص ١٢٤)، وَالمَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (١٦/ ١٠) مَوقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ . الصَّحِيحَةُ (٢١٨٨).
(٣) قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (٦/ ١٨٠): "وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ اللهُ ﷿ مِنْ آي القُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ؛ فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ عَلَيهِ بَيَانًا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَغَيرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَيهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا بِهِمْ إِلَيهِ الحَاجَةُ؛ ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ سَبِيلٌ!! فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَكُلُّ مَا فِيهِ لِخَلْقِهِ إِلَيهِ الحَاجَةُ -وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِ مَا بِهِمْ عَنْ بَعْضِ مَعَانِيهِ الغِنَى؛ وَإِنِ اضْطَرَّتْهُ الحَاجَةُ إِلَيهِ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ- وَذَلِكَ كَقَولِ اللهِ ﷿: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيرًا﴾ [الأَنْعَام: ١٥٨] فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ أُمَّتَهُ أَنَّ تِلْكَ الآيَةَ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤُهُ عِبَادَهُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ: هِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَالَّذِي كَانَتْ بِالعِبَادِ إِلَيهِ الحَاجَةُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ هُوَ العِلْمُ مِنْهُمْ بِوَقْتِ نَفْعِ التَّوبَةِ بِصِفَتِهِ بِغَيرِ تَحْدِيدِهِ بِعَدٍّ بِالسِّنِينَ وَالشُّهُورِ وَالأَيَّامِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ لَهُمْ بِدِلَالَةِ الكِتَابِ، وَأَوضَحَهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ مُفَسَّرًا، وَالَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ مِنْهُ هُوَ العِلْمُ بِمِقْدَارِ المُدَّةِ الَّتِي بَينَ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ وَوَقْتِ حُدُوثِ تِلْكَ الآيَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ العِلْمُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ فَحَجَبَهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ هُوَ المَعْنَى الَّذِي طَلَبَتِ اليَهُودُ مَعْرِفَتَهُ فِي مُدَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِنْ قِبَلِ قَولِهِ: (الم، وَالمص، وَالر، وَالمر) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ المُتَشَابِهَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ".

<<  <  ج: ص:  >  >>