للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَعْنًى آخَرَ فِي سِيَاقٍ آخَرَ، وَتَرْكِيبُ الكَلَامِ يُفِيدُ مَعْنًى عَلَى وَجْهٍ وَمَعْنًى آخَرَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَلَفْظُ (القَرْيَةِ) مَثَلًا يُرَادُ بِهِ القَومُ تَارَةً وَمَسَاكِنُ القَومِ تَارَةً أُخْرَى، فَمِنَ الأَوَّلِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الإِسْرَاء: ٥٨]، وَمِنَ الثَّانِي قَولُهُ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ ضَيفِ إِبْرَاهِيم: ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ [العَنْكَبُوت: ٣٦]، وَتَقُولُ: صَنَعْتُ هَذَا بِيَدِي؛ فَلَا تَكُونُ اليَدُ كَاليَدِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]! لِأَنَّ اليَدَ فِي المِثَالِ أُضِيفَتْ إِلَى المَخْلُوقِ فَتَكُونُ مُنَاسِبَةً لَهُ، وَفِي الآيَةِ أُضِيفَتْ إِلَى الخَالِقِ فَتَكُونُ لَائِقَةً بِهِ، فَلَا أَحَدَ -سَلِيمَ الفِطْرَةِ؛ صَحِيحَ العَقْلِ- يَعْتَقِدُ أَنَّ يَدَ الخَالِقِ كَيَدِ المَخْلُوقِ أَو بِالعَكْسِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَظَاهِرُ نُصُوصِ الصِّفَاتِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى الذّهْنِ مِنَ المَعَانِي.

وَهُنَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

القِسْمِ الأوَّلِ: هُمْ مَنْ جَعَلُوا الظَّاهِرَ المُتَبَادِرَ مِنْهَا مَعْنًى حَقًّا يَلِيقُ بِاللهِ ﷿، وَأَبْقَوا دِلَالَتَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ السَّلَفُ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَالَّذِينَ لَا يَصْدُقُ لَقَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ إِلَّا عَلَيهِم، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيدُ) فَقَالَ: "أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالإِيمَانِ بِهَا، وَحَمْلِهَا عَلَى الحَقِيقَةِ لَا عَلَى المَجَازِ، إِلَّا أَنَّهُم لَا يُكَيِّفُونَ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً.

وَأَمَّا أَهْلُ البِدَعِ وَالجَهْمِيَّةُ وَالمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالخَوَارِجُ فَكُلُّهُم يُنْكِرُها وَلَا يَحْمِلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>