للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنَّ المحدّث لا يفتقر إليها، لأنَّ ذلك من وظيفة الفقيه؛ لأنَّه يستنبط الأحكام من الأحاديث، فيحتاج إلى معرفة المتواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ، فأمّا المحدّث، فوظيفتُهُ أنْ ينقل ويروي ما سمعه من الأحاديث كما سمعه، فإنْ تصدى لما وراءه فزيادةٌ في الفضل، وكمالٌ في الاختيار» (١).

لقد أطال ابن الأثير رحمه الله تعالى وأطاب، وأبانَ لمن جاء بعده البضاعة لهذه الصناعة، وأنَّها صناعةٌ ليست كبقية الصناعات. ونحن نعلم أنَّ علم العلل رأسُ علوم الحديث، إذ من خلاله نعرف صحيح الحديث من ضعيفه، ونميز عدله من معوجه، ومرفوعه من موقوفه ومسنده من مرسله. وصاحبُهُ يحتاج جميع أدوات الفن مع حاجته إلى الفنون الأخرى من العلوم ليتقن فيها علم الحديث، قال الحافظ ابن حجر مبيناً صعوبة علم العلل: «وهو منْ أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، ولهذالم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن: كعلي بن المديني، وأحمد بن حنْبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني. وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم» (٢).

ثم إنَّ صعوبة تحصيل صفات رجل العلل أمر قد جعل هذا العلم خفيّاً على كثيرين، بل خَفِيَ على أكثر أهل الحديث خاصة فضلاً عن غيرهم، قال ابن كثير: «وَهُوَ فَنٌّ خَفِيٌّ (٣) عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الحَدِيثِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ


(١) "جامع الأصول" ١/ ٣٦ - ٣٨، وعلى كلام ابن الأثير الأخير؛ فإنَّ رتبة الفقيه أعلى من رتبة المحدّث، فالمحدّث من أحاط بعلم الحديث رواية ودراية، فإذا أضيف إليها الاستنباط فهو الفقيه. أما من لم يحصل علم الحديث وجاء يتحذلق الفقه فهو ليس بفقيه؛ إذ شرط الفقيه أنْ يكون محدثاً.
(٢) "نزهة النظر": ٧٢، وهذا النص مقتبس من كلام العلائي وهو في " النكت " ٢/ ٧١١
و: ٤٨٥ و ٢/ ٧٧٧ و:٥٤٣ بتحقيقي على أنَّه في الموضع الأول لم ينسبه، وفي الثاني نسبه للعلائي.
(٣) كلمة (خفي) مرفوعة على أنها اسم، وهي خبر ثانٍ أو صفة على خلاف بين البصريين والكوفيين، وهكذا جاءت الكلمة مجودة الضبط في نسختنا الخطية المصورة عن الأصل المحفوظ في الدار العراقية للمخطوطات رقم (١٤٠٨١)، وهي نسخة متقنة عليها خط ابن كثير وقد أخطأ علي الحلبي فضبطها في نشرته لكتاب "الباعث الحثيث" ١/ ١٩٦ هكذا: «خَِفيَ» على أنها فعل، وما ذكر من أنها اسم أبلغ، فالجملة التي مستندها اسم تدل على الثبوت، والجملة التي مستندها الفعل تدل على التجدد. انظر: "معاني النحو" ١/ ١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>