تتبع سِيرَ من برعَ في هذا الفن من السابقين والمتأخرين والمعاصرين وجد أنَّ لهم أعمالاً صالحة ظاهرة وخفية، ومراقبةً تامة لله مما وفقهم الله به على الصواب في هذا الفن العظيم.
ثم لا بد من الصبر والجَلَد، وطول النَّفَس في البحث والتفتيش واستنفاد الوسع مع الإنصاف والعدل والفِطنة والذكاء وإظهار الذل والافتقار والإلحاح بالدعاء وصدق اللجأ إلى الله، قال الحافظ الذهبي:«قال محمد بن بَرَكة الحلبي: سمعتُ عثمان بن خُرَّزاذ يقول: يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإن عدمتْ واحدةٌ فهي نقصٌ: يحتاج إلى عقلٍ جيدٍ، ودينٍ، وضبطٍ، وحذاقة بالصناعة، مع أمانة تعرف منه. قلت - القائل: الذهبي -: الأمانةُ جزء من الدِّين، والضبطُ داخلٌ في الحذقِ فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون تقياً، ذكياً، نحوياً، لغوياً، زكياً، حيياً، سَلَفياً، يكفيه أن يكتب بيده مئتي مجلد، ويُحصِّل من الدواوين المعتبرة خمس مئة مجلدٍ، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى الممات، بنيةٍ خالصةٍ وتواضعٍ، وإلاّ فلا يتعنَّ»(١)،
وقال ابنُ القيِّم ﵀: «ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أنْ ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى مُلهم الصواب، ومعلم الخير، وهادي القلوب، أنْ يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، يدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر مَنْ أمَّل فضلَ ربه أنْ لا يحرمه إياه، فإذا وجد من قلبه هذه الهمة فهي طلائعُ بشرى التوفيق، فعليه أنْ يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى، ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإنْ ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار، والإكثار من ذكر الله، فإنَّ العلم نورُ الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياحٌ عاصفةٌ تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أنْ