ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أنَّ اختلاف الروايات شيء غير تعارض الأدلة، فاختلاف الروايات يعني: أنَّ الحديث متحد المخرج والمدار، ثم اختلف الرواة عن المدار في سند الحديث أو في متنه، أما تعارض الأدلة فهو إشكال في ذهن الناقد أو الفقيه رأى من خلاله تعارضاً بين دليلين منفصلين، وعلى هذا فإن اختلاف الروايات عن المدار ما لم يكن راجعاً إلى معنى واحد، لا بد فيه من سلوك طريق الترجيح أولاً، ولا يجمع بينهما إذا كان المعنى متعارضاً، ولا دخل للنسخ هنا؛ لأنَّ الاختلاف طارئ متأخر، وقد صدر الحديث عن النَّبيِّ ﷺ مرة واحدة. أما ما يذكر في كتب الأصول والمصطلح من الجمع ثم الحكم بالنسخ إنْ عُلم المتقدم والمتأخر ثم الترجيح ثم التوقف، فهذا في اختلاف دليلين منفصلين، ومن الخطأ تطبيق هذه القاعدة على اختلاف الروايات (١).
ولاختلاف الروايات أسباب:
١ - الرواية بالمعنى: فمعلوم قطعاً أنَّ كثيراً من الأحاديث التي تروى عن النَّبيِّ ﷺ، لم ينطقها النَّبيُّ ﷺ بحروفها وترتيبها كاملة كما نقلت إلينا، ولكنَّه كلام النَّبيِّ ﷺ بالجملة، وما تغاير اللفظ فيه فهو يحمل على المعنى في الغالب. علماً أنَّ الرواية بالمعنى ليست هي الغالب في نقل الأحاديث، بل الأصل أنَّ الحديث نقل إلينا بلفظه، لكن حينما تختلف الألفاظ المنقولة في كثير من الأحايين، فتحمل على النقل بالمعنى.
٢ - قلة ضبط بعض الرواة، فربما تكون الواقعة في الخبر هي التي يهتم بها الناقل، فيضبطها، ولا يعتني عناية تامة فيما هو خارج عن المناسبة.
٣ - اختلاف فهوم النقلة، فربما يكون الحديث فعلاً من أفعاله ﷺ فيحكيه أحدهم على وجه ويحكيه الآخر على وجه آخر إلا أنَّ المعنى واحد، فالحديث حكاية فعل لا حكاية قول.
٤ - وربما يكون اختلاف الروايات اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فكل راوٍ يحكي ما رآه ممن لم يره الآخر وإنْ كانت الواقعة واحدة.