وكذلك إن كان القاضي مالكيا، فاختصم إليه اثنان في سؤر الكلب، فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته.
وكذلك إن كان القاضي شافعيا، فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمدا، فقال أحدهما: هذا منعني من بيع شاة مذكاة. فقال الآخر: إنما منعته من بيع الميتة. فقضى عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه.
وكذلك إن كان القاضي حنبليا، فاختصم إليه اثنان، فقال أحدهما: لي عليه مال. فقال الآخر: كان له علي مال فقضيته. فقضى عليه بالبراءة من إقراره، مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فإن هذا وأمثاله -مما توخى اتباع الأكثرين فيه- أقرب عندي إلى الإخلاص، وأرجح في العمل.
"وبمقتضى هذا فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة، وإنهم قد سدُّوا ثغرًا من ثغور الإسلام سَدُّهُ فرْضُ كفاية، ولو أهملت هذا القول ولم أذكره، ومشيت على الطريق التي يمشي عليها الفقهاء، الذين يذكر كل منهم في كتابٍ إنْ صَنَّفه، أو كلامٍ إنْ قالَهُ، أنَّه لا يصح أن يكون قاضيا، إلا من كان من أهل الاجتهاد.
ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به، ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية، وهذا غير صحيح، بل الصحيح في المسألة أن ولاة الحكام جائزة، وأن حكوماتهم اليوم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعا. انتهى كلام ابن هبيرة رحمه الله ١.
١ في هذا الكلام نظر من وجوه، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن من أصول الشريعة اليسر ورفع الحرج، ومن هدي النبي "ص" أنه ما خُيِّرَ =