صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك؛ ولو ساغ ادعاء المجاز لكل أحد ما ثبت شيء من العبادات، ولبطلت العقود كلها كالأنكحة والطلاق والأقارير وغيرها، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. وأيضا فالكلام إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد، قصده البيان والهدى والدلالة والإيضاح بكل طريق، وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ، وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته، لم يشك السامع في أن مراده هو ما دل عليه ظاهر كلامه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أثناء كلام له*: ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن لخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما أنزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه أو مقتضاه، كان عليه أن يقرن لخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، لا سيما إذا كان لا يجوز اعتقاده في الله، فإنه عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده، وإذا كان ذلك مخوفا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة هو اعتقاد باطل - إلى أن قال: وهذا كلام مبين لا مخلص لأحد عنه. انتهى.
[تكلم الله تعالى حقيقة لا مجاز]
وأيضا فالأدلة الدالة على أن الله يتكلم حقيقة أكثر من أن يمكن ذكرها هاهنا، منها أن الله -سبحانه- فرق بين الإيحاء المشترك بين الأنبياء وبين التكليم الخاص لموسى فقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى
* انظر مجموع الفتاوى ٥/ ١٦٧. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]