للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتون بشيء، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون. فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم، ولا يتكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منفية.

فإذا سمع الجاهل قولهم ظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلال وكفر، فما يُسأل عنه الجهمي يقال له: تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فتجد في سنة رسول الله أنه قال: إن القرآن مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فمن أين قلت؟ فيقول: من قول الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ١.

وزعم أن جعل مخلوق مجعول هو مخلوق ٢، فادَّعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنْزيلها، وكما يبتغي الفتنة في تأويلها، وذلك أن "جعل" في القرآن من المخلوقين على وجهين: على معنى تسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم، فقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} ٣، قالوا: هو شعر وأساطير الأولين، وأضغاث أحلام. فهذا على معنى تسمية.

وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ٤ يعني: إنهم سموهم إناثا، ثم ذكر "جعل" على غير معنى تسمية، فقال: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} ٥ فهذا على معنى فعل من أفعالهم.

وقال: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} ٦ هذا على معنى "جعل"، فهذا على جعل المخلوقين، ثم جعل من أمر الله على معنى خلق لا يكون إلا خلق، ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عنه المعنى.

وإذا قال الله: "جعل" على غير معنى خلق لا يكون خلق، ولا يقوم مقام خلق، ولا يزول عنه المعنى، فمما قال الله جعل على معنى خلق قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ٧، يعني: وخلق الظلمات والنور. وقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} ٨.


١ سورة الزخرف آية: ٣.
٢ كذا في الأصل.
٣ سورة الحجر آية: ٩١.
٤ سورة الزخرف آية: ١٩.
٥ سورة البقرة آية: ١٩.
٦ سورة الكهف آية: ٩٦.
٧ سورة الأنعام آية: ١.
٨ سورة النحل آية: ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>