وبرهانا وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك"، إلى أن قال: "ومن أنواعه -أي الشرك-: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن أن يملك لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد.
فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنْزلة مَنْ استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى النقص بالأموات، وهم قد تنقَّصوا الخالق بالشرك به، وأولياءه الموحدين له بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقَّصوا مَنْ أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم يوالونهم عليه. وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرَّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرَّد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، وأخلص قصده لله متبعا لأمره متطلبا لمرضاته. إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله وبالله ومع الله". انتهى.
فرحم الله هذا الإمام وشيخه فلقد بينا حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله.