"أحدهما": أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة، ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده بأنه طاعة، فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضا من الأغراض المباحة فهذا جائز.
"الوجه الثاني": أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، فليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن، ولا يروي أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في ذلك شيئا، بل ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة كموطأ مالك وغيره، بل لمَّا سُئِلَ الإمام أحمد -وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة- عن هذه المسألة لم يكن عنده ما يقيمه عليها إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من رجل يُسَلِّمُ عليَّ إلا ردَّ الله علي روحي حتى أردَّ عليه السلام"١ وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه.
وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان إذا دخل المسجد قال:"السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف".
واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهم:"يستقبل قبره، ويسلم عليه"، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة:"يستقبل القبلة، ويسلم عليه"، هكذا في كتب أصحابه.
وقال مالك:"لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي".