وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه ويعرفونه، حتى الخوارج والرافضة والمعتزلة والمتكلمون، من كل أشعري وكرامي وماتريدي؛ وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله. فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا، فخفي عليهم حقيقة الشرك. وأما الفلاسفة وأهل الاتحاد فإنهم لا يقولون بهذا المعنى ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي ب "لا إله إلا الله" كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو الله، فهو المنفي وهو المثبت بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا، وهو قولهم: إن الله هو الموجود المطلق. فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا.
ويشبه قولهم هذا أهل وحدة الوجود القائلين بأن الله تعالى هو الموجود بعينه، فيقولون: إن المنفي كلي، والمثبت بقوله "إلا" هو الوجود بعينه. ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود، كل شيء عندهم هو الله، حتى الأصنام والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء. فخذ قولي واقبله -وفقك الله-.
فلقد عرفت -بحمد الله- ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة أن تقدير خبر "لا": موجود. وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود، وإنما وضعت لنفي الشرك، والبراءة منه، وتجريد التوحيد، كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم.
وتقدير خبر "لا" بموجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين -لعنهم الله- على قولهم: إن الله هو الوجود، فلا موجود إلا الله. فهذا معنى قوله: إنه كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. فغير المعنى الذي دلت عليه "لا إله إلا الله" من نفي جميع المعبودات التي تعبد من دون الله، والمنفي إنما هو حقيقتها كما قال المسيح -عليه السلام-: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي