للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنهما-، فاستحبابُه في ذلك الوقت لتلك العلّة، وفيما بعدَ ذلك تأسِّيًا واقتداءً بما فعل في زمانه -صلى اللَّه عليه وسلم-.

وفي ذلك من الحكمة: تذكُّرُ الوقائع الماضية للسَّلَف الكرام، وفي طَيِّ تذكُّرها مصالحُ دينيّةٌ، إذ تتبيّن في أشياءَ كثيرةٍ، منها: ما كانوا عليه من امتثال أمر اللَّه تعالى، والمبادرة إليه، وبذلِ الأنفس في ذلك.

وبهذه النكتة يظهرُ أَنّ كثيرًا من الأعمال الواقعةِ في الحج، ويقال فيها: إنّها تعبُّد، ليست كما قيل، ألا ترى أنّا إذا فعلناها، وتذكَّرنا أسبابَها، حصل لنا من ذلك تعظيمُ الأَوَّلين، وما كانوا عليه من احتمال المشاقِّ في امتثالِ أمر اللَّه تعالى، وكان هذا التّذكُّر باعثًا لنا على مثلِ ذلك، ومقرِّرًا في أنفسنا تعظيمَ الأوّلين؟ وذلك معنًى معقول، مثاله: السّعيُ بينَ الصّفا والمروة؛ فإنّا نتذكّر بفعله قصةَ هاجرَ مع ابنِها إسماعيل -عليه السّلام-، وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحِش منفردَيْنِ منقطِعَي أسبابِ الحياةِ بالكليّة، مع ما أظهره اللَّه تعالى من الكرامة والآيةِ في إخراجِ الماء لهما، فيظهر لنا من ذلك مصالحُ عظيمة معقولة.

وكذلك رميُ الجِمار، إذا فعلناه، تذكّرنا أَنَّ سببه رميُ إبليسَ بالجِمار في هذه المواضع، عند إرادةِ الخليلِ ذبحَ ولده إسماعيلَ، فيحصل لنا من ذلك مصالحُ عظيمةُ النّفع في الدّين (١).

وفي "الصّحيحين": أنّ سيّدنا عمرَ -رضي اللَّه عنه-، قال: فما لَنا والرَّمَلَ؟ إنّما كنّا راءَينا به المشركين، وقد أهلكهم اللَّه.

ثمّ قال -أي: بعد أن رجع عَمَّا همَّ به-: هو شيءٌ صنعه النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا نحبُّ أن نتركه، ثم رَمَلَ (٢).


(١) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (٣/ ٤٦).
(٢) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (١٥٢٨) فقط دون مسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>