فأما التفريط، فيفقد هذه القوة من أصلها، وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه: إنه لا حمية له، وقد وصف الله تعالى الصحابة الكرام بالشدة والحمية، فقال:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}[الفتح: ٢٩] وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: ٧٣].
وأما الإفراط، فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين، ولا يبقى للعقل مع الغضب بصيرة ونظر وفكر ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر، وسببه غلبة أمور غريزية وأمور اعتيادية، فرب إنسان مستعد لسرعة الغضب بالفطرة، حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارةُ مزاج القلب؛ لأن الغضب من النار؛ كما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبرودة المزاج تطفئه، وتكسر سَوْرَته.
وأمّا الأسباب الاعتيادية، فبمخالطة من يتبجَّح بتشفي الغيظ وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعةً ورجولية، حتى يقول قائلهم: أنا الذي لا أصبر على الضيم، ولا أحتمله من أحد، ومعناه: لا عقلَ لي ولا حلم، فيذكر ذلك في معرض الفخر بجهله، فربما رسخ في نفس من يسمعه حسّ الغضب، وكلما اشتدت نار الغضب، وقوي اضطرابها، أعمت صاحبه، أو أصمته عن كل موعظة؛ لأن نور عقله قد انطفأ وانمحى بدخان الغضب؛ فإن معدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخانٌ إلى الدماغ مظلمٌ يستولي على معادن الفكر، ويتعدى إلى معادن الحس، فتظلم عينه، وتسود عليه الدُّنيا بأسرها، فدماغه بمثابة كهف أُضرمت فيه نار، فاسود جَوُّه، وحمي مستقره، وامتلأ بالدخان جوانبه، وكان فيه سراج ضعيف، فانطفأ وانمحى نوره، فلا يثبت فيه قدم، ولا يسمع فيه كلمة، ولا يقدر على إطفائه، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق.