بني العباس في كتابه "تَرك الغضب وكَظْم الغيظ": اعلم أن الله -تعالى- لما خلق الحيوان معرضًا للفساد والموتان بأسباب في داخل بدنه، وأسباب خارجة عنه، أنعمَ عليه بما يحميه الفساد، ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم، سماه في كتابه. . . . إلى أن قال: والأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان كالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يُقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه، فتدفع المهلكات عنه، فخلق الغضب من النار، وغرزه في الإنسان، وعجنه بطينته، فمهما قصد في غرض من أغراضه، ومقصود من مقاصده، اشتعلت نار الغضب، وثارت ثورانًا يغلي به دم القلب، وتنتشر في العروق، وترتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدور، فلذلك ينصب إلى الوجه، فيحمر الوجه والعين والبشرة لصفائها، فيحكي لون ما وراءها من حمرة الدّم، كما تحكي الزجاجة لونَ ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على مَنْ دونه، واستشعر القدرةَ عليه، فإن صدر الغضب عَمَّنْ فوقه، وكان مأيوسًا من القدرة على الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، وصار حزنًا، ولذلك يصفر اللون، وإن كان على نظير يشكُّ فيه، تولد منه تردُّدُ الدم بين انقباض وانبساط، فيحمرُّ ويصفر ويضطرب.
وبالجملة: فقوة الغضب محلُّها القلب، ومعناها غليانُ دم القلب لطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها، والانتقام قوةُ هذه القوة وثمرتُها، وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به.
ثم إن الناس في هذه القوة على ثلاث درجات من أول الفطرة؛ من التفريط، والإفراط، والاعتدال.