للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما كان في زمن عمر - رضي الله عنه - كثر أهل الإسلام، وأغنى الله عن اليهود وغيرهم من الكفار فأجلوهم، وكان -عليه السلام- قد قال قبل موته ما تقدم (١)، وعلى ما تقرر من هذه الأصول، فكما أن الجهاد واجب، فعمل آلاته وبيعها إذا اضطر إليها عند قوم تعين وجوب العمل بأجرة المثل، وبذل الآلة بثمن المثل، أو بالمشترى الأول، وما يقع عليه الرضا من الكسب، فإنه إن بذل ذلك تبرعًا كان مجاهدًا، فإن المؤمن [عليه] (٢) أن يجاهد بيده وبلسانه وبقلبه، وعليه النفقة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وأثرة عليه، فمن عجز عن الجهاد ببدنه، لم يسقط عنه الجهاد بماله، وعكس ذلك، ومن لم يطق أن يجاهد بيده، فليس بمعذور إن ترك الجهاد بلسانه وقلبه.

وإذا كان الناس وهم أهل العلم، وأهل الجهاد، وأهل التجارة، وأصناف البيوع المباحة لا بد لهم ممن يطحن ويعجن ويخبز، كما كان أهل الإسلام بالمدينة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز، وإنما كانوا كالأعاريب في بواديهم، ولا من يبيع خبزًا ولا دقيقًا، وإنما كانوا يشترون الحب ويطحنونه بأيديهم، ويخبزونه في بيوتهم، ولا يجدون من يتولى ذلك بأجرة، حتَّى إن المنخل (٣) لم يعرف بينهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا رأى النقي، وكانوا يجدون لذلك مشقة، مع شغلهم بالغزو والعلم والعبادة. فلهذا لما غلا السعر قال له رجل: يا رسول الله سعر لنا! ، قال: "بل أدعو الله لكم" (٤)، فلما كثر ذلك منهم قال: "إن الله هو الخافض الرافع المسعر القابض الباسط، وإني أحب أن ألقى الله وليس


(١) يشير إلى أمره - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب.
(٢) إضافة لتوضيح السابق.
(٣) قال في الصحاح (٥/ ١٨٢٧): "نخل الدقيق غربلته، والنخالة: ما يخرج منه، والمنخل: ما ينخل به. . ".
(٤) رواه أبو داود برقم (٣٤٥٠) كتاب البيوع، وإسناده حسن كما ذكر الحافظ في تلخيص الحبير (٣/ ١٤)، وقد ذكره الشيخ الألباني في كتابه صحيح أبي داود برقم (٢٩٤٤).

<<  <   >  >>