للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[الفواكه الدواني]

كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] إذْ هُمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ الْعَالِمُونَ الْعَامِلُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» وَالْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] فَإِنَّهُ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ، فَالْمُجْتَهِدُ مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَلَا يُقَلِّدُ، وَالْمُقَلِّدُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] إلَّا عَقَائِدَ الْإِيمَانِ فَيَحْرُمُ التَّقْلِيدُ فِيهَا مِنْ الْقَادِرِ عَلَى النَّظَرِ الْمُوصِلِ لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ صِحَّةِ إيمَانِهِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا تَقَدَّمَ.

١ -

تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ لَا يَنْعَزِلُ مِنْهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالْجَوْرِ حَيْثُ نُصِّبَ عَدْلًا، وَإِنَّمَا يَنْحَلُّ عَقْدُ الْإِمَامَةِ بِمَا يَزُولُ بِهِ مَقْصُودُ الْإِمَامَةِ كَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَصَيْرُورَةِ الْإِمَامِ أَسِيرًا لَا يُرْجَى خَلَاصُهُ، وَكَذَا بِالْمَرَضِ الَّذِي يُنْسِيه الْعُلُومَ، وَبِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ، وَكَذَا بِخَلْعِهِ نَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ الْمَرَضُ إنَّمَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْإِمَامَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ خَلْعُ الْحَسَنِ نَفْسَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَكْثَرِ مِنْ عَدَمِ عَزْلِهِ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ يُعَارِضُهُ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: إذَا نُصِبَ الْإِمَامُ عَدْلًا ثُمَّ فَسَقَ بَعْدَ إبْرَامِ الْعَقْدِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَتَنْفَسِخُ إمَامَتُهُ وَيَنْخَلِعُ بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يُقَامُ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَحِفْظِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْمَجَانِينِ وَالنَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْفِسْقِ يُقْعِدُهُ عَنْ الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا أَدَّى إلَى إبْطَالِ مَا أُقِيمَ لِأَجْلِهِ اهـ. وَقَوْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَشْتَدَّ الضَّرَرُ بِبَقَائِهِ وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى عَزْلِهِ، وَأَمَّا نَائِبُ الْإِمَامِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ كَالْإِمَامِ فَيُعْزَلُ بِمَا ذُكِرَ اتِّفَاقًا وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَأَمَّا خَلْعُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ لِضَابِطِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ فِي تَوْضِيحِهِ: كُلُّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ مَعَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْخَلِيفَةِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُجْبَرِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِمَامِ الصَّلَاةِ وَكُلِّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا عَلَى وَجْهٍ يَمْلِكُ مَعَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَلَا يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ إلَّا بِشَرْطٍ كَالْقَاضِي وَالْوَكِيلِ وَلَوْ مُفَوَّضًا، وَإِذَا خُلِعَ بِلَا سَبَبٍ لَمْ تَنْعَقِدْ الْإِمَامَةُ لِمَنْ وَلِيَ بَعْدَهُ.

الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالْجَوْرِ أَيْضًا، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْ الْجَوْرِ بِلُطْفٍ وَيُنْصَحُ وَيُرْشَدُ إلَى الْحَقِّ وُجُوبًا عَلَى مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ وَظَنَّ إفَادَتَهُ أَوْ تَوَهَّمَهَا، وَلَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ عَلَى الْأُمَرَاءِ جَهْرًا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتَنِ كَمَا لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُمْ، بَلْ الْمَطْلُوبُ الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْإِصْلَاحِ، وَالِاسْتِغْفَارُ.

(وَ) مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَيْضًا (اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَفِيمَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ.

قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:

وَتَابِعِ الصَّالِحَ مِمَّنْ سَلَفَا ... وَجَانِبِ الْبِدْعَةَ مِمَّنْ خَلَفَا

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ وَلَوْ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ كَالْفَاكِهَانِيِّ: وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَتَّبِعُهُمْ فِيمَا اسْتَنْبَطُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ، وَأَمَّا أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ يُحَصِّلُوهَا بِاجْتِهَادِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا خِلَافَ فِي اتِّبَاعِهِمْ فِيهَا، فَلَعَلَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا يُخَالِفُ هَذَا، ثُمَّ أَكَّدَ الْكَلَامَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ: (وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ) ؛ لِأَنَّ الِاقْتِفَاءَ هُوَ الِاتِّبَاعُ، وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمُكَلَّفِ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي عَقَائِدِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَهَيْئَاتِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتَدُوا بِاَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» .

وَقَالَ أَيْضًا: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضْوًا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» .

وَقَالَ أَيْضًا: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَالْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ النَّجَاةَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَفِيهِ الْفَوْزُ بِكُلِّ كَمَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مُحَافَظَةً عَلَى طَرِيقَةِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَ) لِحُصُولِ النَّجَاةِ لَنَا وَالْفَوْزِ بِاتِّبَاعِهِمْ يَجِبُ عَلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُكَلَّفِينَ (الِاسْتِغْفَارُ) أَيْ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ (لَهُمْ) أَيْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَكِنْ لَا بِقَيْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ الْأَعَمُّ لِمَا يَسْتَوْجِبُهُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ. فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِخْدَامُ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِمَعْنًى وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: ١٩] وَقَالَ تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>