. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: ١٠] وَإِنَّمَا طَلَبَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ لِمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّهُمْ وَضَّحُوا السَّبِيلَ.
قَالَ بَعْضٌ: وَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ سَبَقَ بِالْإِيمَانِ، وَيَحْصُلُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِمَرَّةٍ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَقَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ إلَّا إذَا أَتَى بِهَا مَعَ قَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَإِلَّا كَانَ عَاصِيًا حَيْثُ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُؤْمِنِ.
تَنْبِيهٌ: تَفْسِيرُنَا لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ بِالصَّحَابَةِ هُوَ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ السَّلَفَ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مُتَقَدِّمٍ وَسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ، وَالصَّالِحُ عُرْفًا وَشَرْعًا هُوَ الْقَائِمُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى الْوَلِيِّ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} [الأنبياء: ٨٥] ، إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: ٨٦] وَقَالَ فِي يَحْيَى: {وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: ٣٩] وَقَالَ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: ٦٩] .
وَلَمَّا كَانَتْ الشَّرَائِعُ لَا تَتَّضِحُ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ الْجِدَالِ وَكَانَ مِنْهُ الْجَائِزُ وَهُوَ مَا كَانَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ أَوْ لِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَالْحَرَامُ وَهُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ (تَرْكُ الْمِرَاءِ) فِي الدِّينِ وَهُوَ بِالْمَدِّ لُغَةً الِاسْتِخْرَاجُ، تَقُولُ: مَرَيْت الْفَرَسَ إذَا اسْتَخْرَجْت جَرْيَهُ، وَالْمُمَارِي يَسْتَخْرِجُ مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَعُرْفًا مُنَازَعَةُ الْغَيْرِ مِمَّا يَدَّعِي صَوَابَهُ وَلَوْ ظَنًّا.
قَالَ تَعَالَى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: ٢٢] قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ طَعْنُك فِي كَلَامِ الْغَيْرِ لِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ سِوَى تَحْقِيرِ قَائِلِهِ وَإِظْهَارِ مَزِيَّتِكَ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: الْجِدَالُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ (وَ) يَجِبُ أَيْضًا تَرْكُ (الْجِدَالِ) مَصْدَرُ جَادَلَ إذَا خَاصَمَ وَحَقِيقَتُهُ الْحُجَّةُ بِالْحُجَّةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هُوَ تَعَارُضٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِتَحْقِيقِ حَقٍّ أَوْ إبْطَالِهِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الثَّانِي، وَقَالَ بَعْضٌ الْمِرَاءُ: وَالْجِدَالُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْجِدَالُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا ذَاكَرْت أَحَدًا وَقَصَدْت إفْحَامَهُ وَإِنَّمَا أُذَاكِرُهُ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقٌّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي عُلَمَاءِ زَمَانِنَا فَلَا تُجَالِسْهُمْ وَفِرَّ مِنْهُمْ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ الْجِدَالَ وَهُوَ مُحِقٌّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا ذَاكَرْت حَلِيمًا إلَّا وَحَقَّرَنِي وَلَا سَفِيهًا إلَّا وَأَخْزَانِي، وَقَالَ: مَا اسْتَكْمَلَ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِرَاءَ وَالْجِدَالَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَقَوْلُهُ (فِي الدِّينِ) يَتَنَازَعُهُ الْمِرَاءُ، وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ هُوَ جِدَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ هِجْرَانَ ذِي الْبِدَعِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي الدِّينِ أَنَّ الْجِدَالَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا جَائِزٌ بَيْنَ أَهْلِهَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْحَقِّ وَالْتِزَامِ الصِّدْقِ وَتَرْكِ اللَّدَدِ وَالْإِيذَاءِ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: لِلْمُنَاظَرَةِ الْجَائِزَةِ - وَيُقَالُ لَهَا الْمُذَاكَرَاتُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - شُرُوطٌ وَآدَابٌ، فَأَمَّا شُرُوطُهَا فَهِيَ ضَبْطُ قَوَانِينِ الْمُنَاظَرَةِ مِنْ كَيْفِيَّةِ إيرَادِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَالِاعْتِرَاضَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِهَا وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عَالِمًا بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُنَاظَرَاتُ، وَصَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ كَلَامَهُ مِنْ الْفُحْشِ وَالْخَطَأِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالصِّدْقِ فِيمَا يَنْسُبُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا جَمِيعُ أَقْوَالِهِ مُطَابِقَةً لِاعْتِقَادِهِ، وَأَمَّا آدَابُهَا فَهِيَ تَجَنُّبُ اضْطِرَابِ مَا عَدَا اللِّسَانِ مِنْ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِدَالُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَخَفْضِهِ، وَحُسْنُ الْإِصْغَاءِ لِكَلَامِ صَاحِبِهِ، وَجَعْلُ الْكَلَامِ مُنَاوَبَةً، وَالثَّبَاتُ عَلَى الدَّعْوَةِ إنْ كَانَ مُجِيبًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَى السُّؤَالِ إنْ كَانَ سَائِلًا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ التَّعَنُّتِ وَالتَّعَصُّبِ وَقَصْدِ الِانْتِقَامِ، وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا فِي مَوْضِعِ مَهَانَةٍ وَلَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ تَشْهَدُ بِالزُّورِ لِخَصْمِهِ وَيَرُدُّونَ كَلَامَهُ، وَيَجْتَنِبُ الرِّيَاءَ وَالْمُبَاهَاةَ وَالضَّحِكَ، فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْآدَابُ أَفَادَتْ الْمُنَاظَرَةُ خَمْسَ خِصَالٍ: إيضَاحَ الْحُجَّةِ، وَإِبْطَالَ الشُّبْهَةِ، وَرَدَّ الْمُخْطِئِ لِلصَّوَابِ وَالضَّالِّ إلَى الرَّشَادِ، وَالزَّائِغِ إلَى صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ مَعَ الذَّهَابِ إلَى التَّعْلِيمِ، وَطَلَبِ التَّحْقِيقِ.
الثَّانِي: بَقِيَ بَعْدَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَلْفَاظٌ يَقَعُ الِالْتِبَاسُ بَيْنَ مَعَانِيهَا فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ مَعْرِفَتُهَا وَهِيَ: الْمُكَابَرَةُ وَالْمُعَانَدَةُ وَالْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَاكَرَةُ وَالْمُنَاظَرَةُ وَالْمُشَاغَبَةُ وَالْمُغَالَطَةُ، فَالْمُكَابَرَةُ هِيَ الْإِقَامَةُ عَلَى إنْكَارِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُعَانَدَةُ هِيَ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَلَامِهِ وَكَلَامِ صَاحِبِهِ، وَالْمُجَادَلَةُ هِيَ الْفِكْرُ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ نَفْسِهِ دُونَ الْمُجَادَلَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْغَيْرِ، وَالْمُنَاكَرَةُ لَا