حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ فَإِنْ ذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ أَهْدَى هَدْيًا يُذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتُجْزِئُهُ شَاةٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَقَامَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ حَلِفِهِ فَلْيَمْشِ إنْ شَاءَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ رَكِبَ
ــ
[الفواكه الدواني]
(أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ) حِينَ يَمِينِهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَثُلُثُهُ حِينَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ فَمَا بَقِيَ بِمَا لِي فِي كَسَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ وَالرِّبَاطُ بِمَحَلٍّ خِيفَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ الْمُوَطَّإِ: «أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْت الذَّنْبَ فِيهَا وَأُجَاوِرُك وَأَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ؟ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْزَاءَ فَرْعُ شُغْلِ الذِّمَّةِ، وَمَالُهُ يَشْمَلُ عَرَضَهُ وَدَيْنَهُ وَقِيمَةَ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ مِنْهُ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ثُلُثُ مَالِهِ بَعْدَ أَدَائِهِ دُيُونَهُ وَمَهْرَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّمَا الثُّلُثُ بِحِينِ يَمِينِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ حَلَفَ وَعِنْدَهُ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَحْنَثْ حَتَّى نَقَصَ فَالْمُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْبَاقِي، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِخْرَاجُ حَتَّى ضَاعَ الْمَالُ، وَلَوْ جَمِيعُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِتَفْرِيطٍ عَلَى مَا فِي هِبَاتِ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافًا لِشَارِحِهَا أَبِي الْحَسَنِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ جَعَلَ مَالَهُ أَنَّهُ لَوْ سَمَّى شَيْئًا كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ كَبَيْتٍ أَوْ سِلْعَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهُ، وَلَوْ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ مَالِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا سَمَّى، وَإِنْ مُعَيَّنًا أَتَى عَلَى الْجَمِيعِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِمَالِي إلَّا كَذَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ، وَلَوْ قَلَّ الْفَرْقُ بَيْنَ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ يَلْزَمُهُ الثُّلُثُ وَبَيْنَ مَنْ سَمَّى يَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا سَمَّاهُ، إنَّ مَنْ سَمَّى لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ أَبْقَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَلَوْ ثِيَابَ ظَهْرِهِ، وَمَنْ قَالَ مَالِي، وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مَالِي يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَخَفَّفَ عَنْهُ وَاكْتَفَى مِنْهُ بِثُلُثِهِ.
الثَّانِي: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَجْزَأَهُ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ، وَلَوْ لِمُعَيَّنٍ لَا يُقْضَى بِهِ، وَمِثْلُهُ الصَّدَقَةُ أَوْ الْحَبْسُ إذَا كَانَتْ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَلِمُعَيَّنٍ لَقَضَى بِهَا؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ الْتَزَمَ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ، فَالْهِبَةُ وَنَحْوُهَا إذَا كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ وَبِغَيْرِ يَمِينٍ يُقْضَى بِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ خَلِيلٍ.
الثَّالِثُ: لَوْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ جَمِيعِ مَا يَسْتَفِيدُهُ أَبَدًا أَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَا أَسْتَفِيدُهُ صَدَقَةٌ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَيَّنَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُ مَا يَكْتَسِبُهُ أَوْ يَسْتَفِيدُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ يَدْفَعُهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا.
(وَمَنْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ) أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، وَحَنِثَ أَوْ نَذَرَ ذَلِكَ أَوْ نَذَرَ نَحْرَ نَفْسِهِ. (فَإِنْ ذَكَرَ) الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ أَوْ نَوَى فِي قَلْبِهِ (مَقَامَ إبْرَاهِيمَ) الْخَلِيلِ أَيْ قِصَّتَهُ مَعَ وَلَدِهِ فِي الْتِزَامِهِ ذَبْحِهِ وَفَدَاهُ بِالْهَدْيِ لَا مَقَامَ الصَّلَاةِ. (أَهْدَى) أَيْ أَخْرَجَ وُجُوبًا (هَدْيًا) يُجْزِئُ ضَحِيَّةً (يَذْبَحُ) أَوْ يَنْحَرُ (بِمَكَّةَ) إنْ لَمْ يَسُقْ فِي حَجٍّ وَيُوقَفُ بِهِ فِي عَرَفَةَ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِلَّا ذُكِّيَ فِي مِنًى، وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الْأَعْلَى كَبَدَنَةٍ، وَإِلَّا فَبَقَرَةٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ) لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ قَدَرَ عَلَى أَعْلَى مِنْهَا.
(تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ ذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بَلْ مِثْلُهُ لَوْ نَوَى أَوْ ذَكَرَ مَوْضِعَ النَّحْرِ كَمَكَّةَ أَوْ مِنًى أَوْ مَوْضِعًا مِنْ مَوَاضِعِهَا أَوْ لَفَظَ بِالْهَدْيِ فَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ فِي الْقَرِيبِ وَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْهَدْيِ أَوْ ذِكْرَهُ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ الْقُرْبَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْحَلِفِ. (وَ) مَفْهُومُ مَا تَقَدَّمَ (إنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَقَامَ) ، وَلَا نَوَاهُ، وَلَا لَفَظَ بِالْهَدْيِ، وَلَا ذَكَرَ مَوْضِعَ الذَّبْحِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْقُرْبَةَ بَلْ قَصَدَ قَتْلَ وَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ هَدْيٍ، وَلَا كَفَّارَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ نَذَرَ نَحْرَهُ أَوْ حَلَفَ بِنَحْرِهِ عَبْدَهُ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَلَا يَلْزَمُ فِي مَالِي فِي الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِهَا أَوْ كُلِّ مَا أَكْتَسِبُهُ أَوْ هَدْيٍ لِغَيْرِ مَكَّةَ أَوْ مَالِ غَيْرٍ إنْ لَمْ يُرِدْ إنْ مَلَكَهُ أَوْ عَلَى نَحْرِ فُلَانٍ، وَلَوْ قَرِيبًا إنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالْهَدْيِ أَوْ يَنْوِهِ أَوْ يَذْكُرْ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ، فَالْأَحَبُّ حِينَئِذٍ بَدَنَةٌ كَنَذْرِ الْهَدْيِ ثُمَّ بَقَرَةٌ.
(وَمَنْ حَلَفَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ) ، وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا صَلَاةً، وَلَا صِيَامًا بِأَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْبَيْتِ أَوْ إلَى جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ كَالْحَجَرِ وَالْمُلْتَزَمِ وَالرُّكْنِ وَالْبَابِ (فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ) ، وَمِثْلُ الْحَلِفِ لَوْ نَذَرَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ يَمْشِي (مِنْ مَوْضِعٍ) نَوَاهُ فِي النَّذْرِ وَالْحَلِفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ نَذْرِهِ، وَفِي الْحَلِفِ مِنْ مَوْضِعِ (حَلِفِهِ) فَإِنْ حَنِثَ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَلِفِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْهُ إنْ كَانَ مِثْلَ مَوْضِعِ الْحَلِفِ فِي الْبُعْدِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ مَوْضِعِ الْحَلِفِ، وَلَوْ يَسِيرًا رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْحَلِفِ، وَمَشَى مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَشْيَ جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَيَمْشِي مِنْ مَوْضِعِهِ وَيُهْدِي، وَقَوْلُنَا فِي الْبُعْدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْمَسَافَةِ لَا فِي الصُّعُوبَةِ وَالسُّهُولَةِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعًا لِمَشْيِهِ الْمَشْيُ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ لِلْحَالِفِينَ، وَلِغَيْرِهِمْ أَوْ لِلْحَالِفِينَ فَقَطْ، وَإِنْ اخْتَلَفَ طَرِيقُ الْحَالِفِينَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فَيَجُوزُ الْمَشْيُ، وَلَوْ مِنْ الْقَرِيبَةِ حَيْثُ اُعْتِيدَ الْمَشْيُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِينَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ فَيَمْشِي مِنْ مَوْضِعِ