حَفْرِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ فِي حَفْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَيُقْضَى بِالْحَائِطِ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ وَالْعُقُودُ وَلَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ
ــ
[الفواكه الدواني]
فَرْقَ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ فِي الْمُوَطَّإِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ: هُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: مَعْنَى لَا ضَرَرَ أَنَّك لَا تَضُرُّ مَنْ لَمْ يَضُرَّك، وَمَعْنَى لَا ضِرَارَ لَا تَضُرُّ مَنْ ضَرَّك، وَفُرِّعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُضَارَرَةِ قَوْلُهُ: (فَلَا يَفْعَلُ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» .
وَفِي آخَرَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ» .
وَفِي آخَرَ: «وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» وَالْمُرَادُ بِبَوَائِقِهِ شَرُّهُ.
وَفِي حَدِيثٍ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ» .
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْبَعٌ مِنْ السَّعَادَةِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنْ الشَّقَاوَةِ بِمَعْنَى التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ» .
وَالْمُرَادُ بِالْجَارِ مَنْ كَانَ بِجَوَانِبِك الْأَرْبَعِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِيرَةِ فَقِيلَ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: جَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ.
فَالْأَوَّلُ: الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ.
وَالثَّانِي: الْمُسْلِمُ الْأَجْنَبِيُّ.
وَالثَّالِثُ: الذِّمِّيُّ غَيْرُ الْقَرِيبِ.
ثُمَّ بَيَّنَ مَا بِهِ الضَّرَرُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ فَتْحِ كَوَّةٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ الْوَاوِ أَيْ طَاقَةٍ (قَرِيبَةٍ) مِنْ مَنْزِلِ جَارِهِ (يَكْشِفُ) أَيْ يَنْظُرُ (جَارَهُ مِنْهَا) انْكِشَافًا قَوِيًّا بِحَيْثُ يُمَيِّزُ الذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ مَحَلِّ الْجَارِ أَوْ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعَ مِنْهَا أَوْ قَرِيبَةً لَكِنْ جَعَلَ حَائِلًا يَمْنَعُ الْكَشْفَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ فَتْحِهَا فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَإِنْ فَتَحَ مَا يُمْنَعُ فَتْحُهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِسَدِّهِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَقُضِيَ بِسَدِّ كُوَّةٍ فُتِحَتْ أُرِيدَ سَدُّ خَلْفِهَا بَلْ يَجِبُ طَمْسُهَا وَقَلْعُ عَتَبَتِهَا، وَمَفْهُومُ فُتِحَتْ أَنَّ الْكُوَّةَ السَّابِقَةَ عَلَى بَيْتِ الْجَارِ لَا يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ التَّطَلُّعِ عَلَى الْجَارِ مِنْهَا، وَالْمُتَنَازَعُ فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ يُحْمَلُ عَلَى الْحُدُوثِ فَيُقْضَى بِسَدِّهِ، وَاخْتُلِفَ إذَا فَتَحَ كُوَّةً مِنْ حَائِطِهِ بِحَيْثُ يَكْشِفُ عَلَى بُسْتَانِ جَارِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، بِخِلَافِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَزَارِعِ الْجَارِ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِهِ.
(أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا يَفْعَلُ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ مِنْ (فَتْحِ بَابٍ قُبَالَةَ بَابِهِ) أَيْ بَابِ جَارِ الْفَاتِحِ، فَإِنْ فَعَلَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى عَوْرَةِ جَارِهِ، وَمَحَلُّ الْمَنْعِ إذَا كَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ نَافِذَةً فَلَا يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ الْبَابِ سَوَاءٌ نَكَّبَهُ وَحَرَّفَهُ عَنْ بَابِ جَارِهِ أَمْ لَا، وَمَفْهُومُ قُبَالَةِ بَابِهِ أَنَّهُ لَوْ نَكَّبَهُ بِأَنْ فَتَحَهُ لَا فِي مُقَابَلَةِ بَابِ جَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ إحْدَاثَ الْبَابِ بِالسِّكَّةِ النَّافِذَةِ جَائِزٌ مُطْلَقًا وَكَذَا بِغَيْرِ النَّافِذَةِ حَيْثُ رَضِيَ أَصْحَابُ السِّكَّةِ أَوْ نَكَّبَهُ، وَالْمُعْتَبَرُ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، وَهَذَا بِخِلَافِ إحْدَاثِ الْحَانُوتِ قُبَالَةَ بَابِ شَخْصٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ وَلَوْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَابِ حَيْثُ جَازَ بِالسِّكَّةِ النَّافِذَةِ مُطْلَقًا شِدَّةُ الضَّرَرِ مِنْ الْحَانُوتِ دُونَ الْبَابِ بِكَثْرَةِ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْحَانُوتِ (أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا يَفْعَلُ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ مِنْ (حَفْرِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ فِي حَفْرِهِ وَإِنْ كَانَ) الْحَفْرُ (فِي مِلْكِهِ) كَحَفْرِ بِئْرٍ مُلْتَصِقَةٍ بِجَارِهِ أَوْ حَاصِلٍ لِمِرْحَاضِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَقُضِيَ بِمَنْعِ دُخَانٍ كَحَمَّامٍ أَوْ رَائِحَةٍ كَدِبَاغٍ وَأَنْدَرٍ قِبَلَ بَيْتٍ وَمُضِرٍّ بِجِدَارٍ وَإِصْطَبْلٍ أَوْ حَانُوتٍ قُبَالَةَ بَابٍ، وَاخْتُلِفَ فِي إحْدَاثِ مَا يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَضُرُّ بِجِدَارٍ، كَإِحْدَاثِ فُرْنٍ بِقُرْبِ فُرْنٍ، أَوْ حَمَّامٍ بِقُرْبِ حَمَّامٍ يَمْنَعُ الْجَارَ مِنْ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ فِي إحْدَاثِ الْبِئْرِ بِقُرْبِ بِئْرِ الْجَارِ فَبَعْضُهُمْ أَجَازَهَا وَقَالَهُ أَشْهَبُ إنْ لَزِمَ عَلَى حَفْرِهَا اسْتِفْرَاغُ مَائِهَا مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا.
(تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ مَنْعِ إحْدَاثِ مَا ذُكِرَ عَدَمُ مَنْعِ إحْدَاثِ مَانِعٍ نَحْوِ الضَّوْءِ قَالَ: مَنْعِ ضَوْءٍ وَشَمْسٍ وَرِيحٍ أَيْ عَنْ الْجَارِ إلَّا عَنْ أَنْدَرٍ أَوْ عَنْ طَاحُونٍ تَدُورُ بِالرِّيحِ فَإِنَّهُ يُمْنَعَ مِنْ إحْدَاثِ مَا يَمْنَعُهُ لِشِدَّةِ حَالِ الْأَنْدَرِ وَالطَّاحُونِ الْمَذْكُورَةِ لِلرِّيحِ، وَمِمَّا لَا يَمْنَعُ الْجَارَ مِنْ إحْدَاثِهِ عُلُوُّ بِنَائِهِ عَلَى بِنَاءِ جَارِهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْمُعَلَّى كَإِجَارَةِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الطُّرْطُوشِيُّ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ تَعْلِيَةِ بِنَائِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَحَكَى فِي الْمُسَاوَاةِ قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَى بِنَاؤُهَا أَعْلَى مِنْ بِنَاءِ مُجَاوِرِهَا مِنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْنَعُ وَيُقِرُّ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ نَقَلَهُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي كَالْمُسْتَصْوِبِ لَهُ، وَكَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ صَوْتٍ كَكَمَدٍ وَقَصْرٍ، إلَّا أَنْ يَشْتَدَّ ضَرَرُهُ وَيَدُومَ وَإِلَّا مُنِعَ.
(فَرْعٌ) الْمَنَارَةُ يَكْشِفُ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَصْحَابَ الدُّورِ الَّتِي بِجَوَانِبِهَا يُمْنَعُ مِنْ الصُّعُودِ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً عَلَى بِنَاءِ مَا حَوْلَهَا، وَأَمَّا أَنَّ الْمُؤَذِّنَ أَعْمَى أَوْ لَهَا حَاجِزٌ يَمْنَعُ النَّظَرَ لِمَا حَوْلَهَا فَلَا يُمْنَعُ الصُّعُودَ عَلَيْهَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي جَوَازَ الصُّعُودِ عَلَى نَخْلَةٍ يَطْلُعُ فَوْقَهَا عَلَى مَا بِجَانِبِهَا لِنُدُورِ الصُّعُودِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمَنَارَةِ، وَأَيْضًا الصَّاعِدُ عَلَى النَّخْلَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إنْذَارُ الْجَارِ، وَلَا يُقَالُ: الْمُؤَذِّنُ لَك يَقْدِرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: تَكَرَّرَ إلَّا أَنْ يَقْتَضِيَ مَشَقَّةَ الْإِنْذَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ الَّذِي يُقْضَى لَهُ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بَيْنَ الْجَارَيْنِ. (وَيُقْضَى بِالْحَائِطِ) الْمَوْضُوعِ بَيْنَ الْجَارَيْنِ وَلَا