للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِ الْكَلَأُ

وَأَهْلُ الْمَاشِيَةِ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَسْقُوا ثُمَّ النَّاسُ فِيهَا سَوَاءٌ

وَمَنْ كَانَ فِي أَرْضِهِ عَيْنٌ أَوْ بِئْرٌ فَلَهُ مَنْعُهَا إلَّا أَنْ تَنْهَدِمَ

ــ

[الفواكه الدواني]

بَيِّنَةَ تَشْهَدُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (لِمَنْ إلَيْهِ) أَيْ إلَى جِهَتِهِ (الْقِمْطُ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ جَمْعُ قِمَاطٍ (وَالْعُقُودُ) لَكِنْ بَعْدَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ شَهِدَ لَهُ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِمَا، فَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِتَرَادُفِهِمَا وَهُوَ تَدَاخُلُ بَعْضِ الْبِنَاءِ فِي بَعْضِهِ، وَقِيلَ الْقِمْطُ الْخَشَبُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي وَسَطِ الْحَائِطِ لِيَحْفَظَهُ مِنْ الْكَسْرِ، وَالْعُقُودُ تَنَاكُحُ الْأَحْجَارِ فِي بَعْضِهَا، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتِهِمَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَائِطِ شَيْءٌ مِنْهُمَا كَانَ الْحَائِطُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُقْضَى بِذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الْعُدُولِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ انْفَرَدَ غَيْرُ الْعُدُولِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ قَبْلَ إخْبَارِهِمْ قَالَ خَلِيلٌ: وَقِيلَ لِلتَّعَذُّرِ غَيْرُ الْعُدُولِ وَإِنْ مُشْرِكِينَ وَالْوَاحِدُ كَافٍ، وَقَيَّدْنَا بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ شَهِدَتْ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَعُمِلَ بِشَهَادَتِهَا، وَلَوْ كَانَ الْقِمْطُ أَوْ الْعَقْدُ لِجِهَةٍ غَيْرِهِ.

ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْعِ مَا أَصْلُهُ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَنْبَغِي لِمَنْ فِي أَرْضِهِ غَدِيرَانِ (يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ) الزَّائِدِ عَلَى حَاجَتِهِ مِنْهُ (لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ أَيْ الْحَشِيشُ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، وَمِمَّا لَا يُمْنَعُ فَضْلُ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ بَلْ يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى تَمْكِينِ الْمُحْتَاجِ مِنْهُ.

قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي الْجَبْرِ: كَفَضْلِ بِئْرِ مَاشِيَةٍ بِصَحْرَاءَ هَدَرًا إنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمِلْكِيَّةَ حِينَ حَفَرَهَا، أَمَّا إنْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ إنَّمَا حَفَرَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَلَهُ مَنْعُ فَضْلِ مَائِهَا عَنْ غَيْرِهِ.

وَالْأَصْلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا فَضْلَ الْكَلَأِ» أَيْ لَا تَمْنَعُوا مَنْ يُرِيدُ سَقْيَ مَاشِيَةٍ مِنْ فَضْلِ هَذَا الْمَاءِ لِيَبْقَى لَكُمْ الْكَلَأُ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ السَّقْي مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَتْرُكُونَ الْكَلَأَ الْقَرِيبَ مِنْهُ، وَأَيْضًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ لَقَدْ أَعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدُك» أَيْ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيَاهِ الْكَائِنَةِ فِي الْأَرْضِ إنَّمَا نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ وَهِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا الْإِنْسَانُ.

(تَنْبِيهٌ) وَكَمَا لَا يَمْنَعُ فَضْلَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ لَا يَمْنَعُ اصْطِيَادَ السَّمَكِ مِنْهُ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَمْنَعُ صَيْدَ سَمَكٍ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ أَرْضَ صُلْحٍ أَوْ عَنْوَةٍ وَلَوْ كَانَ قَدْ طَرَحَ السَّمَكَ فِيهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. وَكَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ الَّذِي فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزْرَعْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ زَرْعَهَا لِأَجْلِ رَعْيِ كَلَئِهَا، أَوْ يَكُونَ زَرَعَهُ مُكْتَنِفًا وَمُحْتَاطًا بِالْكَلَأِ بِحَيْثُ يَكُونُ عَلَيْهِ فِي رَعْيِهِ ضَرَرٌ، وَإِلَّا فَلَهُ مَنْعُ الْغَيْرِ مِنْهُ.

وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لَا يُنَافِي تَقْدِيمَ صَاحِبِهِ قَالَ: (وَأَهْلُ آبَارِ الْمَاشِيَةِ أَحَقُّ بِهَا) أَيْ بِمَاءِ تِلْكَ الْآبَارِ الَّتِي حَفَرُوهَا فِي الصَّحْرَاءِ لِشُرْبِ مَوَاشِيهِمْ، وَلَهُمْ مَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْ مُسَافِرٍ وَحَاضِرٍ (حَتَّى يَسْقُوا ثُمَّ) بَعْدَ كِفَايَتِهِمْ (النَّاسُ فِيهَا) أَيْ فِي مِيَاهِ تِلْكَ الْآبَارِ (سَوَاءٌ) حَيْثُ اسْتَوَوْا فِي الْوَصْفِ،؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي لَمْ يَحْفِرُوهَا لِبَيْعِ مَائِهَا، وَأَمَّا لَوْ اخْتَلَفَتْ أَوْصَافُ النَّاسِ فَلَمْ يَكُونُوا فِيهَا سَوَاءً بَلْ الْمُسَافِرُ يَقْدَمُ عَلَى الْحَاضِرِ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَبُدِئَ بِمُسَافِرٍ وَعَلَى رَبِّ الْمَاءِ أَنْ يُعِيرَهُ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَاضِرُ، ثُمَّ دَابَّةُ رَبِّ الْمَاءِ وَكُلُّ مَنْ قَدِمَ فَيَقْدَمُ بِجَمِيعِ رَبِّهِ وَفِي كَلَامِ خَلِيلٍ بَيَانُ مَا أَجْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّ الْعَلَّامَةَ خَلِيلًا بَيَّنَ الْمُقَدَّمَ، وَمُحَصِّلُهُ: أَنَّ الْمُقَدَّمَ رَبُّ الْمَاءِ بِشُرْبِ نَفْسِهِ ثُمَّ الْمُسَافِرُ ثُمَّ الْحَاضِرُ ثُمَّ بَعْدَ رَيِّ الْأَنْفُسِ تُقَدَّمُ الدَّوَابُّ، فَتُقَدَّمُ دَوَابُّ رَيِّ الْمَاءِ ثُمَّ دَوَابُّ الْمُسَافِرِ ثُمَّ مَاشِيَةُ رَبِّ الْمَاءِ ثُمَّ مَاشِيَةُ الْمُسَافِرِ ثُمَّ مَاشِيَةُ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الدَّوَابُّ عَلَى الْمَاشِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ تُذْكَى بِخِلَافِ الدَّوَابِّ وَهَذَا كَلَامُ الْأَقْفَهْسِيِّ.

وَاسْتَظْهَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ أَنَّ مَاشِيَةَ الْمُسَافِرِ وَدَابَّتَهُ فِي مَرْتَبَةٍ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَاءُ فِيهِ كِفَايَةٌ لِلْجَمِيعِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى كِفَايَةِ أَرْبَابِهِ فَتَارَةً تُسَوَّى حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ، وَتَارَةً تَخْتَلِفُ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ بِأَنْ كَانَ يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ الْمَشَقَّةُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ رَبِّ الْمَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْجَهْدُ يَحْصُلُ لِلْكُلِّ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَنْ هُوَ أَقْوَى جَهْدًا عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ اسْتَوَى حَالُ الْجَمِيعِ فِي الْجَهْدِ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فَقَوْلَانِ الْأَظْهَرُ مِنْهُمَا تَقْدِيمُ رَبِّ الْمَاءِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ: انْفِرَادُ وَاحِدٍ بِالْجَهْدِ، حُصُولُ الْجَهْدِ لِلْجَمِيعِ لَكِنْ بِتَفَاوُتٍ، يُقَدَّمُ الْمُنْفَرِدُ بِالْجَهْدِ وَمَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ، وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ اسْتِوَاؤُهُ فِي الْجَمِيعِ وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْخِلَافِ تَقْدِيمُ رَبِّ الْمَاءِ، وَكُلُّ مَنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِهِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ الْجَهْدُ لَا بِجَمِيعِ الرَّيِّ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِصَاحِبِ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ فِي فَضْلِ مَائِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَ الْمِلْكِيَّةِ حِينَ حَفَرَهَا وَوُجِدَ مَعَ الْمُحْتَاجِ الثَّمَنُ، وَإِلَّا فَلَا ثَمَنَ لَهُ وَلَوْ كَانَ مَلِيًّا بِبَلَدِهِ، وَهَذَا تَحْرِيرٌ حَسَنٌ فَشَدِيدُك عَلَيْهِ

وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي نَحْوِ الْغُدْرَانِ أَوْ فِي بِئْرِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي تُحْفَرُ لِمُجَرَّدِ السَّقْيِ مِنْهَا لَا بِنِيَّةِ تَمَلُّكِهَا شَرَعَ فِي غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ كَانَ فِي أَرْضِهِ) الْمَمْلُوكَةِ لَهُ ذَاتٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ (عَيْنٌ أَوْ بِئْرٌ فَلَهُ مَنْعُهَا) مِنْ غَيْرِهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَاَلَّذِي مَا جَلَّ وَبِئْرٌ وَمِرْسَالُ مَطَرٍ كَمَا يَمْلِكُهُ مَنْعُهُ وَبَيْعُهُ إلَّا مَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>