وَكَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ
وَلَا تُبْتَدَأُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَمَنْ سَلَّمَ عَلَى ذِمِّيٍّ فَلَا يَسْتَقْبِلُهُ وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ فَلِيَقُلْ عَلَيْك وَمَنْ قَالَ عَلَيْك السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ
ــ
[الفواكه الدواني]
لَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَيَلْزَمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَأَفْتَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الِانْحِنَاءِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ الرُّكُوعِ الشَّرْعِيِّ.
(وَكَرِهَ مَالِكٌ) كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً (الْمُعَانَقَةَ) وَهِيَ جَعْلُ الرَّجُلِ عُنُقَهُ عَلَى عُنُقِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهَا إلَّا مَعَ جَعْفَرٍ، وَلَمْ يَجْرِ الْعَمَلُ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (وَأَجَازَهَا) سُفْيَانُ (بْنُ عُيَيْنَةَ) قَالَ فِي (الذَّخِيرَةِ) : وَجَوَّزَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ سُفْيَانُ فَصَافَحَهُ وَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَوْلَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُكَ، فَقَالَ سُفْيَانُ: عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْك وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ.
قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ.
قَالَ سُفْيَانُ: بَلْ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخْصُصْنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ، أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِك؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ اعْتَنَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: جَعْفَرٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقًا وَخُلُقًا مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ» . وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهَا وَلِنُفْرَةِ النُّفُوسِ عَنْهَا غَالِبًا، وَإِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ سُفْيَانُ مَعَ عِلْمِ مَالِكٍ بِهِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ مَالِكٌ بِالتَّحْدِيثِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَدِيثِ لَعَلَّهُ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهِ لِأَنَّهُ اسْتَجَازَهُ فِي التَّحْدِيثِ وَمِنْ التَّلَطُّفِ بِهِ الْإِذْنُ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ الْمُعَانَقَةَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ وَقَدِمَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ وَعَلِمَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرْكَبَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَمَشَى إلَى إبْرَاهِيمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاعْتَنَقَهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ.
(وَكَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ) أَيْ يَدُ الْغَيْرِ حِينَ السَّلَامِ عَلَيْهِ (وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ) أَيْ التَّقْبِيلُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي مِنْهَا: «أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَامُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَدَرُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ» وَهُوَ صَحِيحٌ وَمِنْهَا تَقْبِيلُ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ يَدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهَا تَقْبِيلُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: «أَرِنِي آيَةً، فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَقُلْ لَهَا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُوك فَتَحَرَّكَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا وَأَقْبَلَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهَا ارْجِعِي فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، فَقَبَّلَ الْأَعْرَابِيُّ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَأَسْلَمَ» .
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إنْكَارُ مَالِكٍ لِمَا رُوِيَ فِي تَقْبِيلِ الْيَدَيْنِ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَمَالِكٌ حُجَّةٌ فِيهَا لِأَنَّهُ إمَامُ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ، فَلِمَا تَقَدَّمَ وَعَمَلِ النَّاسِ عَلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ يَدِ مَنْ تَجُوزُ التَّوَاضُعُ لَهُ وَإِبْرَارُهُ، فَقَدْ قَبَّلَتْ الصَّحَابَةُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمِنْ الرَّسُولِ لِفَاطِمَةَ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَوْ سَيِّدًا أَوْ وَالِدًا حَاضِرًا أَوْ قَادِمًا مِنْ سَفَرٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَمَحِلُّ الْكَرَاهَةِ إذَا كَانَ الْمُقَبِّلُ مُسْلِمًا، وَأَمَّا لَوْ قَبَّلَ يَدَك نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِبْرِ وَرُؤْيَةِ النَّفْسِ عَظِيمَةً، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَعَلَّ الْمُقَبِّلَ بِالْكَسْرِ أَفْضَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا مَعَ ذَوِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ لِوُرُودِهَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْ الْمُقَاطَعَةِ وَالشَّحْنَاءِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي زَمَانِنَا، وَمَفْهُومُ تَقْبِيلِ الْيَدِ أَنَّ تَقْبِيلَ الْفَمِ أَحْرَى بِالْكَرَاهَةِ، إذْ لَا رُخْصَةَ فِي تَقْبِيلِ الرَّجُلِ فَمَ رَجُلٍ، وَأَمَّا تَقْبِيلُ ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ أُمِّهِ فَمَهُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا قَالَهُ، كَمَا لَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ خَدَّ ابْنَتِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ تُقَبِّلَهُ خَتَنَتُهُ وَمُعْتَقَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً. .
(وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يُكْرَهُ أَنْ (تَبْدَأَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) وَسَائِرَ فِرَقِ الضَّلَالِ (بِالسَّلَامِ) لِأَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْلَالِ لِحَدِيثِ: «لَا تَبْدَأْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ» وَمِثْلُ الْكُفَّارِ فِي كَرَاهَةِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ سَائِرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. (فَمَنْ سَلَّمَ عَلَى ذِمِّيٍّ) غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ ذِمِّيٌّ أَوْ نَاسِيًا لِلنَّهْيِ أَوْ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ (فَلَا يَسْتَقْبِلُهُ) أَيْ لَا يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّ سَلَامَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: رُدَّ سَلَامِي الَّذِي سَلَّمْته عَلَيْك لِأَنِّي لَوْ عَلِمْت أَنَّك كَافِرٌ مَا سَلَّمْت عَلَيْك.
(وَ) أَمَّا (إنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِ (الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ فَلْيَقُلْ) أَيْ الْمُسْلِمُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فِي رَدِّ سَلَامِ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ (عَلَيْك) بِغَيْرِ وَاوٍ لِمَا فِي مُسْلِمٍ: «إنَّ الْيَهُودَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكُمْ» فَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ لِيَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَلَيْك أَوْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَأَمَّا لَوْ تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ أَنَّ الذِّمِّيَّ نَطَقَ بِالسَّلَامِ بِفَتْحِ السِّينِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الدُّعَاءَ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ. (وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي رَدِّ سَلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ (عَلَيْك السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ فَقَدْ قِيلَ) يَجُوزُ (ذَلِكَ) قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَنْبَغِي فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَقُولَ الرَّادُّ