للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّذِي أَنْزَلْت وَبِنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك»

وَمِمَّا رُوِيَ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ»

وَرُوِيَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرَ اللَّهَ

ــ

[الفواكه الدواني]

أَيْ لَا نَجَاةَ لِأَحَدٍ مِنْك وَلَا مَرْجِعَ لِأَحَدٍ (إلَّا إلَيْك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك) أَيْ أَرْجِعُ إلَيْك وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ، لِأَنَّ تَوْبَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هِيَ تَوَاضُعُهُ وَشُكْرُهُ: لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (آمَنْت) أَيْ صَدَّقْت (بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت) عَلَى رَسُولِك وَهُوَ الْقُرْآنُ. (وَبِرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْت) قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ: الَّذِي فِي مُسْلِمٍ وَنَبِيِّك أَيْ بَدَلَ رَسُولِك حَتَّى نُسِبَ الْمُصَنِّفُ إلَى الْوَهْمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَرَدَ أَيْضًا بِلَفْظِ رَسُولِك وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولَ: نَبِيِّك وَرَسُولِك احْتِيَاطًا، لِأَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ مَنَعَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّ الْأَذْكَارَ وَالْأَدْعِيَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلِذَا رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ قَالَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ وَبِرَسُولِك وَقَالَ لَهُ قُلْ وَبِنَبِيِّك، وَأَيْضًا الْمُعْتَمَدُ مَنْعُ إبْدَالِ لَفْظِ النَّبِيِّ بِالرَّسُولِ وَعَكْسِهِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَوْ الْأَدَاءِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ فِي مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ:

وَإِنْ رَسُولٌ بِنَبِيٍّ أُبْدِلَا ... فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ كَعَكْسٍ فُعِلَا

وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، وَإِنْ رَجَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْجَوَازَ وَاسْتَصْوَبَ النَّوَوِيُّ كَلَامَهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ نِسْبَةُ الْحَدِيثِ لِقَائِلِهِ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ فَهُوَ تَوْقِيفِيٌّ كَمَا عَرَفْت. (فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت) مِنْ الذُّنُوبِ (وَمَا أَخَّرْت) أَيْ مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَهَذَا أَيْضًا تَعْلِيمٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ ذَنْبٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَمَا عَدَاهُ تَكَلُّفَاتٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا.

(وَ) اغْفِرْ لِي أَيْضًا (مَا أَسْرَرْت) أَيْ أَخْفَيْته مِنْ الذُّنُوبِ (وَمَا أَعْلَنْت) أَيْ أَظْهَرْته مِنْ الذُّنُوبِ. (أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ رَبِّ قِنِي عَذَابَك) أَيْ نَجِّنِي مِنْ عَذَابِك (يَوْمَ تَبْعَثُ) أَيْ تُحْيِي وَتَنْشُرُ (عِبَادَك) قَائِمِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ لِحِسَابِك وَعَرْضِهِمْ عَلَيْك، وَهَذَا الدُّعَاءُ مُجَمَّعٌ مِنْ عِدَّةِ أَحَادِيثَ مَعَ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ غَيْرِ مُخِلَّيْنِ.

وَفِي الْحَدِيثِ ثَلَاثُ خِصَالٍ مُسْتَحَبَّةٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا اقْتِدَاءً بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

إحْدَاهَا: النَّوْمُ عَلَى طَهَارَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْهُ فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِقَوْلِهِ: إذَا أَخَذْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأْ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّك الْأَيْمَنِ، وَفَائِدَةُ الْوُضُوءِ مَخَافَةُ أَنْ يَمُوتَ فِي لَيْلَةٍ وَلِيَكُونَ أَصْدَقَ لِرُؤْيَاهُ وَأَبْعَدَ مِنْ تَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ.

وَثَانِيهَا: النَّوْمُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَمَا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ وَلِأَنَّهُ أَسْرَعُ إلَى الِانْتِبَاهِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي نَاحِيَةِ الْيَسَارِ فَإِذَا اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ فَالنَّوْمُ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ سُنَّةٌ، وَعَلَى الظَّهْرِ فِكْرَةٌ، وَعَلَى الْيَسَارِ اضْطِجَاعُ الْمُلُوكِ، وَعَلَى الْبَطْنِ اضْطِجَاعُ الشَّيَاطِينِ وَأَهْلِ النَّارِ.

وَثَالِثُهَا: ذِكْرُ اللَّهِ لِيَكُونَ خَاتِمَةَ عَمَلِهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ مَعَ الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»

ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يَنْدُبُ عِنْدَ إرَادَةِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنَازِلِ بِقَوْلِهِ: (وَمِمَّا رُوِيَ) عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعِ (فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ) أَيْ أَتَحَصَّنُ (بِك أَنْ أَضِلَّ) أَيْ أَخْرُجَ عَنْ الْحَقِّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. (أَوْ أُضَلَّ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ يُضِلُّنِي الْغَيْرُ عَنْ الْحَقِّ. (أَوْ أَزِلَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ أَمِيلُ عَنْ الْحَقِّ (أَوْ أُزَلَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ يُزِيغُنِي الْغَيْرُ. (أَوْ أَظْلِمَ) غَيْرِي (أَوْ أُظْلَمُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ يَظْلِمُنِي الْغَيْرُ. (أَوْ أَجْهَلَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ أَسْفَهُ عَلَى أَحَدٍ. (أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) فَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ، وَالْجَهْلُ وَالظُّلْمُ قِيلَ هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَمْدًا، وَالْجَهْلُ وَضْعُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ كُلَّمَا يَخْرُجُ وَلَوْ تَكَرَّرَ خُرُوجُهُ، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ الدُّعَاءِ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَوْلُهُ مِنْ الْمَنْزِلِ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلُهُ لَوْ خَرَجَ مِنْ حَائِطِهِ أَوْ مِنْ فُنْدُقِهِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ كَانَ الْخُرُوجُ لِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ لِلسَّفَرِ أَشَدُّ طَلَبًا خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِالْحَضَرِ.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَإِذَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ قَالَ الْمَلَكُ: كُفِيتَ وَهُدِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَفَرَّقُ عَنْهُ الشَّيَاطِينُ وَيَقُولُونَ: مَا تَصْنَعُونَ عِنْدَ رَجُلٍ كُفِيَ وَهُدِيَ وَوُقِيَ» .

وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَيَنْبَغِي حِينَئِذٍ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الدُّعَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>