إلى الحبشة، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقّظت لها قريش، وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، فخرج منهم في هذا الفوج ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة، ويسّر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة. ووجدوا عنده ما يبغون من أمان وطيب جوار وكرم وفادة.
والظاهر أنّ هذا النجاشيّ كان رجلا راشدا، نظيف العقل، حسن المعرفة لله، سليم الاعتقاد في عيسى عبد الله ورسوله عليه السّلام، وكانت مرونة فكره سرّ المعاملة الجميلة التي وفّرها لأولئك اللاجئين إلى مملكته، فارّين بدينهم من الفتن.
عزّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا إلى النجاشيّ وفدا منهم، محمّلا بالهدايا والتّحف، كي يحرم المسلمين ودّه، ويطوي عنهم بشره.
وكان الوفد من عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة- قبل أن يسلما-.
واستعان الوفد على النجاشي برجال حاشيته، بعد أن ساقوا إليهم الهدايا، وزوّدوهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون! قالوا: إنّ ناسا من سفهائنا، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم ...
واتفقوا معهم أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم.
فلما فوتح النجاشي في الأمر، وأشير عليه بإبعاد القوم، رأى ألابد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعا.
ثم أرسل إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه، فيما ساءه وسرّه.
وكان المتكلّم عنهم جعفر بن أبي طالب، فقال لهم النجاشي:
ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من الناس؟.