الزرية، فأمسى الإنسان الذي استخلفه الله ليكون ملكا في السموات والأرض، أمسى عبدا مسخرا لأدنى شيء في السموات والأرض.
وماذا بعد أن تقدّس العجول والأبقار، وتعبد الأخشاب والأحجار، وتطبق شعوب بأسرها على هذه الخرافة؟!.
إن الوثنية هوان يأتي من داخل النفس لا من خارج الحياة، فكما يفرض المحزون كابته على ما حوله، وكما يتخيل المرعوب الأجسام القائمة أشباحا جاثمة؛ كذلك يفرض المرء الممسوخ صغار نفسه وغباء عقله على البيئة التي يحيا فيها، فيؤلّه من جمادها وحيوانها ما يشاء.
ويوم ينفسح القلب الضيّق، ويشرق الفكر الخامد، وتثوب إلى الإنسان معانيه الرفيعة، فإن هذه الانعكاسات الوثنية تنزاح من تلقاء نفسها.
ومن ثمّ كان العمل الأول للدين داخل الإنسان نفسه، فلو ذبحت العجول المقدّسة، ونكّست الأصنام المرموقة، وبقيت النفس على ظلامها القديم، ما أجدى ذلك شيئا في حرب الوثنية! فيبحث العبّاد المفجوعون عن الهة أخرى غير ما فقدوا، يوفضون إليها من جديد! وما أكثر الوثنيين في الدنيا وإن لم يلتفّوا حول نصب، وما أسرع الناس إلى تجاهل الوجود الحق، وربّه الأعلى، والجري وراء وهم جديد!!.
والخرافة لا تأخذ مجراها في الحياة وهي تعلن عن باطلها، أو تكشف عن هرائها؛ كلّا، إنها تداري مجونها بثوب الجد، وتستعير من الحق لبوسه المقبول، وقد تأخذ بعض مقدماته وبعض نتائجه، ثم تتزين بعد ذلك للمخدوعين.
وكذلك فعلت الوثنية، لقد أغارت على الدين الصحيح، وحقائقه الناصعة، لا كما يغير النحل على أزهار الربيع، بل كما تغير الديدان وأسراب الجراد على الحدائق الغنّاء، فتحيلها قاعا بلقعا.
وهي إذا أفسدت ما تركت، لم تصلح ما أخذت، ولئن كان ما أخذته خيرا قبل أن تتصل به، لقد أصبح شرّا بعد ما تحوّل في جوفها إلى سموم.
وهذا هو السرّ في أنّ الوثنية التي لا تعرف الله تزعم أنها بأصنامها تتقرّب إليه وتبغي مرضاته.