لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام إماما لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه، فلما انتهى ذهبوا معه في خبر كان، بل كان قوة من قوى الخير، لها في عالم المعاني ما لاكتشاف البخار والكهرباء في عالم المادة. وإن بعثته لتمثّل مرحلة من مراحل التطور في الوجود الإنساني، كان البشر قبلها في وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه، ثم شبّ الطفل عن الطوق، ورشّح لاحتمال الأعباء واحده، وجاء الخطاب الإلهي إليه- عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم- يشرح له كيف يعيش في الأرض، وكيف يعود إلى السماء. فإذا بقي محمد صلى الله عليه وسلم أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته. إن رسالته تفتيح الأعين والاذان، وتجلية البصائر والأذهان، وذلك مودع في تراثه الضخم من كتاب وسنّة.
إنه لم يبعث ليجمع حول اسمه أناسا قلّوا أو كثروا؛ إنما بعث صلة بين الخلق والحق الذي يصحّ به وجودهم، والنور الذي يبصرون به غايتهم.
فمن عرف في حياته الحق، وكان له نور يمشي به في الناس فقد عرف محمدا صلى الله عليه وسلم، واستظلّ بلوائه، وإن لم ير شبحه أو يعش معه:
فإذا رأيت بعض الناس يتناسى دروس الأستاذ، ويتشبّث بثيابه وهو حيّ، أو يتعلق برفاته وهو ميت، فاعلم أنه طفل غرير، ليس أهلا لأن يخاطب بتعاليم الرسالة بله أن يستقيم على نهجها.
في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة رأيت حشدا من الناس يتلمّس جوار الرّوضة الشريفة، ويودّ أن يقضي العمر بجانبها.
ولو خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حيّا على هؤلاء؛ لأنكر مراهم وكره جوارهم.
إن رثاثة هيئتهم، وقلّة فقههم، وفراغ أيديهم، وضياع أوقاتهم، وطول غفلتهم، تجعل علاقتهم بنبيّ الإسلام أوهى من خيط العنكبوت.
قلت لهم: ما تفيدون من جوار النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما يفيد هو نفسه منكم؟
إنّ الذين يفقهون رسالته ويحيونها من وراء الرمال والبحار، أعرف بحقيقة