والاستعداد لحياة أرقى في الدار الاخرة، والدين الذي جاء به وقّر موسى وأعلى شأنه، ونوّه بكتابه، وطلب من اليهود أن ينفّذوا أحكامه، ويلزموا حدوده.
لكنّ اليهود صمتوا- أولا- صمت المستريب، ثم بدا لهم فقرّروا المعالنة بالجحود.
وهذا الترحيب المتوقّع تلمح دلائله في كثير من الايات، فإنّ عبدة الأصنام إذا أنكروا النبوة فأهل الكتاب يجب أن يشهدوا بها:
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣) [الرعد] .
وعبدة الأصنام إذا رفضوا التذكير بالله فأهل الكتاب أحق بأن يخشعوا إذا وجدوا من يذكّرهم به: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) [القصص] .
غير أنك تدهش، إذ تجد الجرأة على الله، والنفور من أحكامه، ووصفه بما لا يليق شائعة بين اليهود، شيوعها بين المشركين!.
فإذا غضب الإسلام على من ينسب إلى الله ولدا، بشرا أو حجرا، فماذا ترى فيمن يصف رب السموات والأرض بالفقر والبخل؟!.
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا.. [المائدة: ٦٤] .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) [ال عمران] .
على أنّ الإسلام يدع أولئك الجحدة في ضلالهم، فلا يستأصل كفرهم بالسيف، ويكتفي بأن يعلن دعوته، ويكشف حقيقته، ويملأ الجوّ باياته ومعالمه.
فمن استراح إليها فدخل فيها؛ فبها ونعمت، وإلا فهو وشأنه، ولا يطالبه الإسلام بشيء إلا الأدب والمسالمة، وترك الحق يسير من غير عائق أو نكير.
ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمدّ يده إلى اليهود مصافحا، وتحمّل الأذى مسامحا، حتى إذا راهم مجمعين على التنكيل به، ومحو دينه، استدار إليهم، وجرت بينه وبينهم من الوقائع ما سنقصّ أخباره في موضعه.