إنّك لو استضافك شخص كريم، ورأيت البشاشة في وجهه، والسماحة في قراه، حفظت له- ما حييت- هذه المنّة، وسعيت جهدك كي تكافئه عليها، وحدّثت من تعرف بسجايا هذا المضياف الكريم، فما رأيك فيمن تولّى أمرك بنعمائه من المهد إلى اللحد؟! فأنت لا تطعم إلا من رزقه، ولا تكسى إلا من ستره، ولا تأوي إلا إلى كنفه، ولا تنجو من شدة إلّا بإنقاذه ... !!.
إنّ محمدا صلى الله عليه وسلم وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته، كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات بأشواق من نفوسهم، ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم.
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنّها طاعة الرضا والحب!.
والعبادة ليست طاعة الجهل والغافلة، ولكنّها طاعة المعرفة والحصافة!.
قد تصدر الحكومة أمرا بتسعير البضائع فيقبل التجار كارهين، أو أمرا بخفض الرواتب، فيقبل الموظفون ساخطين.
وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك، لا تدري إلى مرتعها تسير أم إلى مصرعها.
تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع الله للناس، فالعبادة التي أجراها الله عن الألسنة في الاية الكريمة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) [الفاتحة] والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) [الذاريات] .
تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة، أي الناشئ عن الإعجاب بالعظمة والعرفان للجميل..
وقد اطّردت ايات القران، تبني سلوك المؤمنين على هذه العمد الراسية.
فهي- إذ تعرّف الناس بالله- تريهم صحائف مشرقة من خلقه البديع، وفضله الجزيل، تمزق ما نسجته الغافلة على الأعين من جهالة وجحود.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) [إبراهيم] .