إنّ الرجل لا يقوم بالعمل العظيم وهو منساق إليه بالسياط الكاوية، إنما تولد الإجادة، ويبلغ الشيء درجة الإحسان بما يقارنه من رغبة ورضا.
فإذا أقبل المرء بفكره وقلبه على معتقد وهب له نفسه وحسه، وعاش يحلم به في منامه، وينشط له في يقظته، فذلك يرقى به صعدا في فهم مبدئه، وإجادة خدمته.
ومن ثمّ فإنّ الإسلام لا يحفل بالإيمان النظري البحت، ولا يقبله إلا ليكون سلّما إلى ما بعده، وهو الإيمان بالعقل والعاطفة معا.
لا بدّ من تلوين الوجدان في قضايا الإيمان، ليس بمسلم من يعرف الله ويكرهه، ولا قيمة لمسلم يعرف الله ووجدانه خال باهت، فلا إعجاب فيه ولا شكران، كما أنه لا غمط فيه ولا جحود.
والمسلم كلّ المسلم هو الذي يعرف الله معرفة اليقين، ويضم إلى هذه المعرفة إحساسا يعترف بمجادة المجيد ونعماء المنعم، تباركت أسماؤه!.
والإيمان بهذه المثابة هو الإيمان المنتج، وهو صانع العجائب، وباني الدول، ومقيم الحضارات السنية، هو الذي يجعل الفرد يستحلي التكاليف المنوطة بعنقه، فيقبل على أدائها، وكأنّها رغبات نفس لا واجبات دين..
أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما قام يصلي حتى تورمت قدماه، كان يغالب الألم الناتج في بدنه كما يغالبه التلميذ المذنب عند ما يوقف الساعات الطوال معذبا مهانا؟.
كلا.. كلا.. إنّ استعذابه للمناجاة، واستغراقه في الخشوع، أذهلاه عمّا به، وغلبا على بوادر الألم الناشئ من طول الوقوف.
والرجل الموفور الحماس، الفائر العاطفة، قد يظل يعمل ويدأب حتى يصل في عمله ودأبه إلى درجة يصعب منالها على القاعدين الباردين.
ووزن الأمور عند أصحاب الإيمان والهمم غير وزنها عند أصحاب الريبة والعجز، ألا ترى حذيفة بن اليمان عند ما انطلق يتعرّف أحوال المشركين في غزوة الخندق، في ليلة باردة قارصة الجوّ، لافحة السبرات:
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا!
لقد انطلق وهو يقول عن نفسه: كأنّما أسير في حمّام!!