أيّ منال، لولا أنّ الله قذف في قلوبهم السكينة، وأعاد إليهم- بعد هذا الزلزال- الأمل والثقة، فسكنوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقبون ما يجدّ، وداعب الكرى أجفان البعض من طول التعب والسهر، فإذا أغفى وسقط من يده السيف، عاودته اليقظة، فتأهب للعراك من جديد! وهذا من نعمة الله على القوم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ال عمران: ١٥٤] .
ولم تكن قريش أقلّ من المسلمين معاناة لأهوال ذلك اليوم العصيب.
فقد تعبت جدّ التعب في الجولة الأولى، فلما أديل لها، وطمعت أن تجعل المعركة حاسمة قاصمة وجدت المسلمين أصلب عودا؛ دون إفنائهم صعاب لا تستطيع احتمالها، فاكتفت مما ظفرت بالإياب.
وظنّ المسلمون- لأول وهلة- أن قريشا تنسحب لتهاجم المدينة نفسها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب:«اخرج في اثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة؛ فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم، ثم لأناجزنّهم فيها» .
قال علي: فخرجت في اثارهم، فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل، واتجهوا إلى مكة «١» .
قال ابن إسحاق: ثم إنّ أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت، إنّ الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل!.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر:«قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار» .
فقال له أبو سفيان: هلم إليّ يا عمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر:«ائته فانظر ما شأنه» ، فجاءه.
فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمّدا؟
فقال عمر: اللهم لا، وإنّه ليسمع كلامك الان، قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة- وهو الذي زعم أنّه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(١) رواه ابن هشام: ٢/ ١٤٠، عن ابن إسحاق بدون إسناد.