المسلمين حلاوته، فإنّ خادما لعمر كان يسقي له من ماء المريسيع ازدحم مع مولى لبني عوف من الخزرج، وكادا يقتتلان على الورود- شأن الخدم الطائشين-، فصاح الأول: يا للمهاجرين! وصاح الاخر: يا للأنصار! واستمع إلى صياح الأتباع عبد الله بن أبي- وكان في رهط من قومه- فرأى الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم، وإحياء ما أماته الإسلام من نعرات الجاهلية، فقال:
أو قد فعلوها؟ نافرونا وكاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، ثم أقبل على قومه- ولم تزل له فيهم بقية وجاهة- يلومهم ويحرّضهم على التنكّر للرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه، فذهب (زيد بن أرقم) إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقصّ عليه الخبر، وأسرع ابن أبي إلى رسول الله يبرئ نفسه، وينفي ما قاله!!.
ورأى الحاضرون أن يقبلوا كلام ابن أبي؛ رعاية لمنزلته، وقالوا: لعلّ الغلام- يعنون زيد بن أرقم- أوهم، ولم يحفظ ما قيل.
على أنّ الحقيقة لم تفت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحزنه ما وقع، ووجد خير علاج له شغل الناس عنه، حتى يعفّي على اثاره، فأصدر أمره بالارتحال في ساعة ما كان يروح في مثلها، ومشى بالناس سائر اليوم حتى أمسوا، وطيلة الليل حتى أصبحوا، وصدر يومهم الجديد حتى اذتهم الشمس، ثم نزل بهم.
فما إن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما! وتابع الرّسول عليه الصلاة والسلام رواحه حتى عاد إلى المدينة.
ونزلت سورة المنافقين وفيها تصديق ما روى زيد بن أرقم: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)[المنافقون]«١» .
لم يدر بخاطر أحد أنّ هذه الأوبة المتعجّلة سوف تتمخّض عن أكذوبة دنيئة يحيك أطرافها (عبد الله بن أبي) ثم يرمي بها بين الناس، فتسير مسير الوباء الفاتك.
إنّ هذا الرجل حلف كاذبا بعد أن أنكر مقالته الثابتة، ولو أنّ الجبان ذهب يطلب النجاة من عقباها، لكان ذلك أجدى عليه، لكنّه لم يزدد- على السماح