للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم إنني أكتب وأمام عينيّ مناظر قاتمة من تأخّر المسلمين العاطفيّ والفكريّ؛ فلا عجب إذا قصصت وقائع السيرة بأسلوب يومئ من قرب أو من بعد إلى حاضرنا المؤسف، كلما أوردت قصة جعلتها تحمل في طياتها شحنة من صدق العاطفة، وسلامة الفكر، وجلال العمل، كي أعالج هذا التأخر المثير.

ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس قصة تتلى في ميلاده كما يفعل الناس الان، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي قد تضمّ إلى ألفاظ الأذان، ولا إكنان حبّه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوّهون أو لا يتأوهون!.

فرباط المسلم برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين، وما جنح المسلمون إلى هذه التعابير- في الإبانة عن تعلقهم بنبيّهم- إلا يوم أن تركوا اللباب المليء وأعياهم حمله، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال؛ ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة في الإسلام، فقد افتنّوا في اختلاق صور أخرى، ولا عليهم؛ فهي لن تكلفهم جهدا ينكصون عنه، إن الجهد الذي يتطلّب العزمات هو الاستمساك باللباب المهجور، والعودة إلى جوهر الدين ذاته، فبدلا من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم، ينهض المرء إلى تقويم نفسه، وإصلاح شأنه، حتى يكون قريبا من سنن محمد صلى الله عليه وسلم في معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته....

إنّ المسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة.

وأريد هنا أن أنبّه إلى ضرورة الفصل بين الجد والهزل في حياتنا، ولا بأس أن نجعل للهو واللعب وقتا لا يعدوه، وللجد والإنتاج وقتا لا يقصر عنه.

فإذا أراد أحد أن يغنّي أو يستمع إلى غناء فليفعل، أما تحويل الإسلام نفسه إلى غناء؛ فيصبح القران ألحانا عذبة، وتصبح السيرة قصائد وتواشيح، فهذا ما لا مساغ له، وما لا يقبله إلا الصغار الغافلون. وقد تمّ هذا التحوّل على حساب الإسلام، فانسحب الدين من ميدان السلوك والتوجيه إلى ميدان اللهو واللعب، وحقّ فيمن فعلوا ذلك قول الله عز وجلّ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: ٧٠] .

<<  <   >  >>