وتحوّل القران إلى تلاوة منغومة فحسب، يستمع إليها عشّاق الطّرب، هو الذي جعل اليهود والنصارى يذيعونه في الافاق، وهم واثقون أنه لن يحيي موتى.
وتحوّل السيرة إلى قصص وقصائد غزل، وصلوات مبهمة؛ جعل الاستماع إليها كذلك ضربا من الخلل النفسي، أو الشذوذ الناشئ- في نظري- من اضطراب الغرائز، وفساد المجتمع.
وخير من هذا كله أن يستمع طلاب الغناء إلى اللهو المجرد، والألحان الطروب، فإذا ابتغوا العمل الجادّ المهيب طلبوه من مصادره المصفّاة: قرانا يأمر وينهى ليفعل أمره ويترك نهيه، وسنّة تفصّل وتوضح ليسار في هديها وينتفع من حكمتها، وسيرة تنفح روادها بالأدب الزكيّ والقواعد الحصيفة، والسياسة الراشدة.
وذلك هو الإسلام.
بدأت أكتب هذه الصحائف وأنا في المدينة المنورة، في الجوار الطيّب الذي سعدت به حينا، وأعانني على إتمام دراسات جيدة في السنّة المطهرة والسيرة العطرة.
ولله المنّة على ما أولى من نعمه، ولعلّه- جلّ شأنه- يجعلني ممن يحبونه ويحبون رسوله، ولما كنت لا أحسن القول والعمل إلا في نطاق الصراحة، فلا بدّ أن أشير إلى أن البون بعيد بين المسلمين ورسولهم صلى الله عليه وسلم، مهما أكنّوا له من حبّ، وأدمنوا من صلوات. لقد رأيتهم يزورون الروضة مشوقين متلهّفين، ويعودون إلى موطنهم ليجدوا من يغبطهم على حظّهم، ويودّ لو ظفر بما نالوا.
أمّا أنّ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة؛ فهذا ما لا يماري فيه مؤمن، وما يغيض حبه إلا من قلب منافق جحود.
ولكن أن تكون هذه العاطفة مظهر الولاء له، فهذا ما يحتاج إلى تهذيب وبيان.
إن يثرب من ناحية العمران العام أقل منها يوم كانت موطنا للأوس والخزرج في الجاهلية الأولى، وما يزرع اليوم من أرضها عشر ما كان يزرعه العرب قديما، وجمهور السكان من رواسب المواسم المزدحمة بالحجيج