ب (معان) يتدبّرون أمرهم، وقال نفر منهم: نكتب إلى رسول الله، نخبره بعدد عدونا، فإمّا أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، ولم يرق لعبد الله بن رواحة فشجّع الناس قائلا: يا قوم! والله إنّ التي تكرهون للّتي خرجتم تطلبون الشهادة! - وما نقاتل النّاس بعدد ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدّين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنّما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة.
وكان لهذه الكلمة الملتهبة أثرها، فاختفت من صفوف المسلمين مشاعر التردد وقرروا القتال مهما كانت النتائج.
وابن رواحة شاعر حادّ العاطفة، وقد أحسّ منذ خروجه أن الاستشهاد مقبل عليه، فهو يتهيأ له بقلبه ولسانه، وقد تكون العسكرية في تصرف غير ما أوحى به، غير أنّ المسلمين ما إن سمعوا حديث الفداء والموت في سبيل الله حتى جاشت بأنفسهم محبة الاخرة، ثم ذكروا أنهم نصروا في معارك سابقة باستعداد أقل من عدوهم، فأقدموا مطمئنين.
عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة، فلمّا دنا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدّة والسّلاح، والكراع، والديباج، والحرير، والذهب، فبرق بصري!! فقال لي ثابت بن أقرم: يا أبا هريرة! كأنّك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم- وأبو هريرة ممّن أسلموا بعد الحديبية- فقال له ثابت: إنّك لم تشهد بدرا معنا، إنّا لم ننصر بالكثرة.
والتقى الجمعان، وعبث أن ننتظر من ثلاثة الاف بطل أن يصاولوا في ميدان مكشوف فيالق تربو عليهم سبعين ضعفا.
قاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم.
وتلقّف الراية جعفر بن أبي طالب، فأقبل على الروم يجالدهم بعنف.
روى أبو داود حديث شاهد عيان يقول: لكأنّي أنظر إلى جعفر حين اقتحم على فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل، وهو ينشد:
يا حبّذا الجنّة واقترابها! ... طيّبة، وباردا شرابها!
والرّوم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها!