قيل: إنّ رجلا من الروم ضربه ضربة قطعه نصفين.
وقيل: أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وقد رزق جعفر هذه الشهادة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
فلما قتل حمل عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فلمّا أحسّ دقّة الموقف، وشدة الضغط، عراه بعض التردد، ثم أقنع نفسه بورود المصير الذي ذاق صاحباه، فأقبل على الساحة المضطرمة وهو يقول:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي! ... هذا حمام الموت قد صليت!
وما تمنّيت فقد أعطيت! ... إن تفعلي فعلهما هديت!
ثم أقدم، وجاءه ابن عم له بقطعة لحم فناولها إياه وهو يقول: شدّ بها صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فما كاد يقطع منها مضغة حتى سمع الحطمة في ناحية من الجبهة استعرت بها الحرب، فقال لنفسه: وأنت في الدنيا؟ ورمى بالطعام من يده.. ثم انتضى سيفه، وتقدّم حتى قتل.
وأخذ الراية التي تداولتها أيدي الأمراء الثلاثة ثابت بن أقرم، وصاح:
يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم! قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل! فاصطلح الناس على (خالد بن الوليد) ، وثابت أبى القيادة لا نكوصا عن الموت، بل شعورا بوجود الأكفأ منه في الجماعة، وحملانه الراية خشية أن تسقط من ايات الجرأة في هذا الموقف العصيب. وليت كلّ امرئ يعرف أقدار الناس، ينزلهم منازلهم التي يستحقونها، فلا يكلف أمته أن تحمل عجزه وأثرته.
وأخذ الراية (خالد) فشرع يقاتل ويحتال للخلوص بالجيش من هذا المأزق المتضايق، وقتال الانسحاب شاقّ مرهق، خصوصا وخالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة.
روى البخاري عن خالد: اندقّت في يدي يوم (مؤتة) تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.
ودخل الليل على المتحاربين، فكان هدنة مؤقتة، فلما طلع الصبح كان خالد قد أعاد تنظيم قواته القليلة، فجعل المقدمة ساقة والميمنة ميسرة.
وجعل هدفه مناوشة الرومان بحيث يلحق بهم أفدح الخسائر، دون أن يعرّض كتلة الجيش لالتحام عام، وقد أفلحت هذه الخطة في إنقاذ الالاف القليلة